سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة التاسعة والعشرون| كتابة الوثيقة

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

من أهم الخطوات التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة الإسلامية الجديدة في المدينة المنورة إصدار وثيقة (دستور)، نظم بموجبها العلاقات بين المجتمع المسلم الجديد نفسه، وبينه وبين المجتمعات الأخرى، التي تعيش في المدينة وخصوصاً اليهود.

والمتأمل في بنود هذه الوثيقة يدرك تماماً الحقائق الآتية:

أولاً: إن أصح ما يمكن أن يطلق على هذه الوثيقة في العصر الحديث كلمة دستور، وقد شملت هذه الوثيقة جميع ما يمكن أن يعالجه أرقى دستور حديث، يُعنَى بالنظام الداخلي والخارجي للدولة.

وهذا يدل على أن المجتمع الإسلامي قام منذ أول نشأته على أسسٍ دستوريةٍ تامة. 

ومن هنا تسقط دعاوى أولئك الذين أعمى الحقد بصائرهم، فزعموا أن الإسلام ليس إلا ديناً قوامه ما بين الإنسان وربه، وليس له من مقومات الدولة والتنظيم الدستوري من شيء. 

ثانيًا: حرية العقيدة: احترم الإسلام لكل فرد حرية المعتقد، قال تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ}[1]، وقال: مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم بصيغة الاستفهام الإنكاري: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[2]؛ ومن ذلك يَتَّضِح أن دستور المسلمين يُقَرِّرُ حرية الاعتقاد، ويعترف بالتَّعَدُّدِيَّة الدينية، ولولا ذلك لما وُجِدَ في بلاد المسلمين يهودي ولا نصراني، ومن يقول إن الإسلام انتشر بالسيف لم يفهم معنى مصطلح (الإيمان)، الذي هو نطق باللسان، واعتقاد بالجنان، وانقياد بالأركان، فأي ركن منها نقص يعتبر خارجاً عن دين الإسلام. وبناء عليه يستطيع السيف أن يكره إنساناً على النطق بالشهادتين، وأن يكرهه على الانقياد للمسلمين، لكن لا يستطيع السيف أن يكره إنساناً على اعتقاد معين، فما أسهل أن يقول لك آمنت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً! ولا يوجد لديك مقياس تعرف من خلاله صدقَه من كذبه. 

ثالثاً: الإسلام مبني على التسامح وقبول الآخر، لا على ثقافة الإقصاء ورفض الآخرين؛ فقد سعى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تأليف القلوب، واستمالة النّاس في كلّ مراحل الدعوة. فقال لخالد بن الوليد عند إسلامه: (الحمد لله الذي هداك. قد كنت أرى لك عقلاً؛ رجوت ألا يسلمك إلاَّ إلى خير)[3]. وعندما دخل مكّة فاتحاً قال: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)[4]. وقال لقريش: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)[5]. فلم يجتث من حاربوه وآذوه، بل تألّف قلوبهم. وبهذه الروح تعامل مع يهود المدينة. 

رابعاً: عالمية الإسلام.

الإسلام دين عالمي ليس له حدود يقف عندها، تتجلّى فيه الروح الإنسانية، التّي لا اعتبار معها للونٍ، أو جنسٍ، أو لغةٍ، أو قوميةٍ، قال تعالى: {قل يا أيّها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً}[6]

وقال: {وما أرسلناك إلاّ كافَّةً للنّاس بشيراً ونذيراً ولكنَّ أكثر النّاس لا يعلمون}[7]

فالإسلام يكره القبلية، ولكن لا يلغيها نهائياً، بل يعترف بها في أمور المؤاخاة والمواساة والتعاون على البر والتقوى في فك الأسير، ودفع دية القتيل.

خامساً: احترام الملكية للجميع.

إن الحقوق المالية لكل من يعيش على أرض الدولة الإسلامية من المسلمين وغير المسلمين من الأقليات كاليهود والنصارى وغيرهم محفوظةٌ تمامًا، فليس معنى أننا عاهدناهم أن نصادر ممتلكاتهم. 

سادساً: المساواة بين المسلمين. 

المسلمون تحت راية الإسلام سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَذِمَّةُ اللَّهِ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ عَدْلٌ وَلَا صَرْفٌ)، ومعنى ذلك أن أي مسلم أو مسلمة أجار كافراً فليس لأحد حاكما أو محكوماً أن يَخفر ذمته[8]

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.  

__________

[1]: سورة البقرة، 256.

[2]: سورة يونس، 99.

[3]: دلائل النبوة للبيهقي 351/4.

[4]: مسند أحمد بن حنبل، 7922.

[5]: مسلم، 1406.

[6]: سورة الأعراف، 158.

[7]: سورة سبأ، 28.

[8]: مصنف عبد الرزاق الصنعاني، 153/17.