سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الثامنة والأربعون| غزوة حنين (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

أحست هوازن بالخطر الداهم، القادم من جهة المسلمين حين فتحوا مكة، وحتما ستكون قبائل هوازن هي الهدف المقبل، فأخذت تستعد لحرب المسلمين، وسلمت زمام أمورها لمالك بن عوف النصري، فاستطاع أن يحشد بفصاحة لسانه ما يزيد على خمسة وعشرين ألف مقاتل، وكان يقول: (إن محمداً لم يقاتل قط قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قوماً أغماراً، لا علم لهم بالحرب؛ فينصر عليهم) [1]. ونسي أنه حارب قبائل غطفان، ويهود المدينة وخيبر، وقريشاً، والروم، وهزم الجميع.

أمر مالك بن عوف جنده أن يجعلوا نساءهم، وأطفالهم، وأنعامهم، وأموالهم خلفهم؛ حتى لا يفروا، دون أن يضع في حسابه احتمال الهزيمة؛ لغروره وفرط تهوره.

فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عيناً؛ ليأتيه بخبر هوازن، فلما رجع أكد بأن هوازن تحشد لحرب المسلمين، وأنهم قد جاؤوا بنسائهم، وذراريهم، وأنعامهم؛ فتبسم النبي عليه الصلاةة والسلام، وقال: «تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله» [2].

«فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في إعداد العُدَّة على أعلى مستوى؛ فاستعار ثلاثة آلاف رمح من ابن عمه نوفل بن الحارث، ومائة درع من صفوان بن أمية، فقال صفوان: أغصباً؟ قال: لا، بل عارية مضمونة» [3].

وتحرك النبي باثني عشر ألفَ مقاتل إلى وادي حنين؛ فقال بعض المسلمين (لن نُغْلَب اليوم من قلة)، فانتشرت هذه الكلمة بين عامة المسلمين كالنار في الهشيم، معجبين بكثرة العَدَدِ والعُدَدِ، وغاب عن أذهانهم (وما النصر إلا من عند الله)؛ فكان لهذا العُجْبِ تداعياتٌ خطيرة للغاية، منها: عدم الاكتراث بقوة العدو، وظهورُ بعض القصور في الأداء، ولم يكتشفوا كمائن هوازن في وادي حُنَيْن، وساروا ببطء شديد؛ مما أتاح للمشركين أن يسبقوا المسلمين إلى وادي حُنَيْن، ويحتلوا المواقع الاستراتيجية، ويستريحوا قبل اللقاء، ودخل الجيش في منطقة شديدة الخطورة دون دراسة كافية.

علماً أن في الجيش المسلم كفاءاتٍ عسكريةً قيادية عالية، مثلَ خالد بن الوليد، والحُبَابِ بن المنذر، وسعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يشأ الله لرسوله أن ينبه المسلمين لهذا الداء، الذي تسلل إلى قلوبهم قبل أن تحصل الكارثة؛ بل أراد الحق – سبحانه – أن يكون الدرس مزلزلاً، وتكون وسيلة الإيضاح فيه هزيمة منكرة؛ لتترك أثرًا تربويًّا أعمق من الأثر الذي تتركه الكلمات والخطب؛ ليبقى محفوراً في أذهانهم لا ينسونه أبداً، ونزل الجيش المسلم في وادي حنين يحدوه داء العجب، فما راعهم إلا والسهام تنهال عليهم من كل مكان، وفر المسلمون فراراً عشوائياً، غير متحرِّفين لقتال، ولا متحيزين إلى فئة، ولم يثبت إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحوله مجموعة صغيرة، «فقال النبي: يا عباس، نَاد: يا أصحابَ السَّمُرة”! قال: وكنت رجلاً صَيتاً، فقلت بأعلى صوتي: أين أصَحابُ السمرة! قال: فوالله لكأنَّ عَطْفَتَهم حين سمعوا صوتي عطفةُ البقر على أولادها» [4]. قالوا: لبيك يا رسول الله، فجاؤوا، وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشّهب.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «اللهم، أنزل نصرك» [5]. فأنزل الله السكينة على المؤمنين، وأرسل الملائكة إلى أرض المعركة، واستعرت الحرب من جديد؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الآن حمي الوطيس، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ» [6]، يخيّل إليهم أن كل حجر أو شجر فارسٌ يطلبهم. فركب الْمُسْلِمُونَ أكتافهم، يَقْتُلُونَ ويأسرون كيف شاءوا، وَغَنَّمَهُمُ اللهُ نِسَاءَهُمْ، وَذَرَارِيَهُمْ، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عدة فرق تتعقبهم؛ من أجل منعهم من التجمع، ومعاودة الهجوم من جديد.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

______________________________________

[1]: مغازي الواقدي، 3/ 893.

[2]:سنن أبي داود، 2503.

[3]: سنن أبي داود، 3564.

[4]: رواه احمد في المسند، 1775.

[5]: رواه مسلم، 79 /1776.

[6]: رواه مسلم، 81 /1777.