سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة السابعة والأربعون| فتح مكة (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

لما كان النبي صلى الله عليه وسلم على مرحلة من مكة نزل عشية، وأمر الجيش أن يشعلوا النيران جميعاً، وعددهم عشرة آلاف مقاتل، يريد بذلك أن ينبه المشركين إلى قوة المسلمين، فيصرف همتهم عن اتخاذ قرار الحرب، بحيث يتم الفتح سلماً؛ لحقن الدماء أن تسفك في البلد الحرام ما أمكن.

وكان العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام على بغلة رسول الله متقدماً أمام الجيش، فوجد أبا سفيان، فقال له ويحك هذا رسول الله، والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فأردفه خلفه، وأتى به رسول الله، فأعلن إسلامه، وكان النبي ينزل الناس منازلهم، ويعرف للرجال أقدارهم، «فقال: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ» [1]، هذا أمر بحظر التجول لحقن الدماء أيضاً.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبَّاسُ، احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ، حَتَّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللَّهِ فَيَرَاهَا» [2]، يَرَى قوة المسلمين، فلا تسول له نفسه إعلان الحرب مرة أخرى.

 ودخل ألوية الإسلام مكة من جهاتها الأربع؛ فلم تلق إلا مناوشات ضعيفة، ثم دخل المسجد فاستلم الحجر، وطاف بالبيت الذي كان حوله غابة من الأصنام، فأخذ يطعنها بقوس في يده، فتنقلب على وجوهها وأقفائها، وهو يتلو: «وقل جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» [3]، ثم دخل الكعبة فصلى فيها ركعتين؛ مما دل على جواز الصلاة في جوف الكعبة الفرض والنافلة ، كما قال الأئمة الثلاثة، وقال مالك: بجواز النفل الطلق فقط.

ونودي بالناس فاجتمعوا، وطلع عليهم الرحمة المهداة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر قريش، ما تظنون أني صانع بكم؟ فصاحت الجموع الوجلة: أخ كريم، وابن أخ كريم، فقَالَ صاحب القلب الكبير عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ» [4]!! سمعوا هذه الكلمات، وكأنما نشروا من قبورهم. ففي يوم الفتح قَدَّمَ الرسول صلى الله عليه وسلم لأخلاقيات النصر أرفع نموذج عَرَفَهُ تاريخ البشرية من الصفح والغفران، عفا عن فَضَالَةَ بْنَ عُمَيْرِ أَرَادَ قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَامَ الْفَتْحِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ، «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَضَالَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ فَضَالَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَاذَا كُنْتُ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟ قَالَ: لَا شَيْءَ، كُنْتُ أَذْكُرُ اللَّهَ، قَالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: اسْتَغْفِرْ اللَّهَ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، فَسَكَنَ قَلْبُهُ، فَكَانَ فَضَالَةُ يَقُولُ: وَاَللَّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتَّى مَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْهُ» [5].

حتى الذين أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقتلهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، فقد اتسع لهم قلب الرسول الكبير، فما جاء أحد منهم معتذراً إلا عفا عنه، ولا جاء مسلم يشفع لواحد منهم إلا قَبِلَ فيه شفاعته.

ثم بايع أهل مكة، عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثم بايع النساء دون مصافحة فقال: «أُبَايِعُكُنَّ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقْنَ وَلَا تَزْنِينَ وَلَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ وَلَا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ وَلَا تَعْصِينَ فِي مَعْرُوفٍ» [6]، فدلّ على أنه لا يجوز ملامسة الرجل بشرة امرأة أجنبية عنه بلا خلاف إلا لضرورة تطبيب.

كما دلّت على أن صوت المرأة الأجنبية ليس بعورة، وهو مذهب الجمهور، وأما ما جاء عن بعض الحنفية؛ بأن صوت المرأة عورة، فهم لا يريدون بذلك مجرد الكلام مع الأجانب عند الحاجة، بل المراد عدم جواز رفع أصواتهن، ولا تمطيطها، ولا تليينها، ولا تقطيعها؛ لما في ذلك من استمالة الرجال، وتحريك شهواتهم.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

_______________________________________

[1]: سنن أبي داود، 3022. الطبراني في الكبير، 7264.

[2]: الطبراني في الكبير، 7264.

[3]: الإسراء، 81.

[4]: السنن الكبرى للبيهقي، 18276.

[5]: سيرة ابن هشام، 2/ 417.

[6]: رواه أحمد في المسند، 27062.