سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الخامسة والأربعون| غزوة مؤتة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.       

كان سبب غزوة مؤتة أن قبائل عرب الشام المواليةَ لدولة الرومان أخذت تضايق المسلمين، وتقطع الطريق على تجارهم، وتقتل الدعاة إلى الله في بلادهم، وأخيراً قتل الحارث بن عمير، سفير رسول الله إلى ملك بصرى. فاعتبر النبي عليه الصلاة والسلام ذلك إعلاناً للحرب، فكان لابد من عمل يشعر الناس أن الإسلام أصبح قوة لا يستهان بها، وذلك بوضع حد لتلك التجاوزات، والثأر للدماء الزكية التي سفكت بغير حق، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إلى الشام؛ لتأديب تلك القبائل المارقة، فاجتمع لديه ثلاثة آلاف مقاتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمير الناس زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة» [1].

وأَمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الجيش الإسلاميَّ: أن يأتوا الأرض التي قتل فيها الحارث بن عمير، وكَانَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ قَالَ: … «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» [2].

فمَضَوْا حَتَّى نَزَلُوا بِمَعَانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فجمع لهم هِرَقْلُ مائتي ألف؛ نصفهم من العرب، فلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ، أَقَامُوا بِمَعَانَ لَيْلَتَيْنِ يتشاورون، وَقَالُوا: (نَكْتُبُ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُوِّنَا، فَإِمَّا أَنْ يُمِدَّنَا بِرِجَالٍ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَنَا بِأَمْرِهِ فَنَمْضِي لَهُ، فَشَجَّعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ النَّاسَ، وَقَالَ: يَا قَوْمُ وَاللهِ إِنَّ الَّذِي تَكْرَهُونَ لَلَّذِي خَرَجْتُمْ لَهُ، تَطْلُبُونَ الشَّهَادَةَ، وَمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ بِعَدَدٍ، وَلَا قُوَّةٍ، وَلَا كَثْرَةٍ، إِنَّمَا نُقَاتِلُهُمْ بِهَذَا الدِّينَ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللهُ بِهِ، فَانْطَلِقُوا فَإِنَّمَا هِيَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا ظُهُورٌ، وَإِمَّا شَهَادَةٌ) [3]، فَشَجَّعَ الناسَ، فمضوا إلى القتال، وتم اللقاء مع العدو في مؤتة، فَقَاتَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وتوغل في جيش العدو يعانق الموت حَتَّى شَاطَ فِي رماحِ الْقَوْمِ، ثُمَّ أَخَذَ الراية جَعْفَرٌ، فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا أَلْحَمَهُ الْقِتَالُ، اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَقَرَهَا، فَقَاتَلَ بشجاعة ليس لها نظير، فقطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، فقطعت، ونزف الدم الطاهر بغزارة، وسقط الجسم الممزع على الأرض مضرجاً بالدماء، وصعدت الروح الزكية إلى الملأ الأعلى، ووجدوا في جسمه تسعين جرحاً، ليس منها شيء في ظهره، وعوضه الله بيديه جناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء، فتسلَّم الرَّاية عبد الله بن رواحة، وامتطى جواده، وتقدَّم فقاتل حتَّى استُشْهِد، فاصطلح النَّاس على خالد بن الوليد، فصمد حتَّى المساء، وفي ظلام الليل استبدل الميمنة بالميسرة، والمقدِّمة بالمؤخِّرة، واصطنع ضجَّة صاخبةً، ثمَّ حمل على العدوِّ، عند الفجر، بهجماتٍ سريعةٍ متتالية، وقويَّة؛ ليوهم العدو أنَّ إمداداتٍ كثيرةً وصلت إلى المسلمين.

وانهارت معنويات العدو فانهزموا، فاستغل خالد هذا الظرف، وأخذ بالانسحاب، فظن العدو أنهم يستجرونهم إلى الصحراء؛ ليقعوا في كمين أُعِدَّ لهم، فتخاذلوا، وتقاعسوا عن مواصلة القتال.

وبهذا يكون المسلمون قد حققوا نصرًا باهراً، ولم يخسروا إلا اثني عشر شهيداً، وخسائر العدو كانت فادحة، قال خالد: (لَقَدِ انْقَطَعَتْ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ) [4].

ونعى النبي صلى الله عليه وسلم للناس الأمراء، فقال: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ عَلَيْهِ» [5]؛ فكانت معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ثُمّ قَالَ: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم أمر يَشْغَلهم، أو أتاهم ما يشغلهم» [6].

 وبما أن الجيش المسلم لم يتابع ملاحقة العدو المهزوم؛ جَعَلَ النَّاسُ يَحْثُونَ عَلَى الْجَيْشِ التُّرَابَ، وَيَقُولُونَ يَا فُرَّارُ، فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ! قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسُوا بِالْفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمْ الْكُرَّارُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» [7].

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

_____________________________________

[1]: رواه البخاري، 4013.

[2]: رواه مسلم، 3 – 1731.

[3]: المعجم الكبير للطبراني، 428.

[4]: رواه البخاري 4017.

[5]: رواه البخاري، 3063.

[6]: رواه أحمد في المسند، 1751.

[7]: سيرة ابن هشام 2/ 382.