سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الرابعة والأربعون| إسلام القادة

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.       

حين أراد الله بخالد بن الوليد الخير، بدأ النور يتسلل إلى قلبه؛ فصارت الأقدار تريه من الآيات ما تفتح مغاليق قلبه، حتى إنه ليقول: (قَدْ شَهِدْتُ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا عَلَى مُحَمَّدٍ، فَلَيْسَ مَوْطِنٌ أَشْهَدُهُ إِلَّا أَنْصَرِفُ وَأَنَا أَرَى فِي نَفْسِي أَنِّي مُوضِعٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا سَيَظْهَرُ) [1]، ويوم الحديبية تَعَرّضْت لَهُ، فَصَلّى بِأَصْحَابِهِ الظّهْرَ آمِنًا مِنّا، فَهَمَمْنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِ، ثُمّ لَمْ يَعْزِمْ لَنَا، فَاطّلَعَ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِنَا مِنْ الْهُمُومِ، فَصَلّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْعَصْرِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَوَقَعَ ذَلِكَ مِنّي مَوْقِعًا، وَقُلْت: الرّجُلُ مَمْنُوعٌ [2]. ويوم عمرة القضية كَتَبَ إلَيه أخوه الوليد: (بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، أَمّا بَعْدُ: فَإِنّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِك عَنْ الْإِسْلَامِ، وَعَقْلُك عَقْلُك! وَمِثْلُ الْإِسْلَامِ جَهِلَهُ أَحَدٌ؟ وَقَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْك فَقَالَ: أَيْنَ خَالِدٌ؟ فَقُلْت: يَأْتِي اللهُ بِهِ. فَقَالَ: مَا مِثْلُهُ جَهِلَ الْإِسْلَامَ! وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَجِدَهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ. فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا فَاتَك، فَقَدْ فَاتَتْك مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ) [3]. قَالَ خَالِدٌ: (وَأَرَى فِي النّوْمِ كَأَنّي فِي بِلَادٍ ضَيّقَةٍ جَدِيبَةٍ، فَخَرَجْت إلَى بَلَدٍ أَخَضَرَ وَاسِعٍ، فَقُلْت إنّ هَذِهِ لَرُؤْيَا) [4].

فوقف على الصفا ونادى بأعلى صوته، غيرَ مبال بالعواقب: (يا معشر قريش، لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدًا ليس بشاعرٍ، ولا ساحر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، فَحَقٌّ على كل ذي لُبٍّ أن يَتَّبِعَه) [5].

فشد رحاله إلى المدينة؛ ليعلن إسلامه، مصطحباً معه عثمان بن طلحة، الذي له الحجابة، وبيده مفتاح الكعبة، وأحد فرسان مكة المعدودين، ويرى رأي خالد في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إسلامه ضربة سياسية لقريش من العيار الثقيل، يُنهِي سيادة قريش على البلد الحرام.

وفي الطريق التقيا بداهية العرب عمرو بن العاص، الذي أسلم على يد النجاشي حين قال له: (يَا عَمْرُو فَأَطِعْنِي وَاتَّبِعْهُ، وَاَللهِ إنّهُ لَعَلَى الْحَقّ، وَلَيَظْهَرَنّ عَلَى كُلّ دِينٍ خَالَفَهُ، كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ). قُلْت: أَفَتُبَايِعُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فبسط يده فبايعته على الإسلام [6].

تَرَافَق الثلاثة حَتّى قَدِموا الْمَدِينَةَ، فَسُرَّ بِهم رسول الله، وتقدم خالد، فما زال النبي يتبسم له حتى سلم عليه بالنبوة، وأعلن الشهادتين، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ، قَدْ كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلًا، رَجَوْتُ أَنْ لَا يُسْلِمَكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ رَأَيْتَ مَا كُنْتُ أَشْهَدُ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ عَلَيْكَ مُعَانِدًا عَنِ الْحَقِّ؛ فَادْعُ اللهَ يَغْفِرْهَا لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ كُلَّ مَا أَوْضَعَ فِيهِ مِنْ صَدٍّ عن سبيلك» [7].

ثم بايع عثمان بن طلحة، وتقدم عمرو فَقال: (ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ؛ إِجْلاَلاً لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ) [8].

ثم ما لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمَّرَهما على بعض السرايا؛ لِيُعَلِّمَنَا أن نعرف للرجال أقدارهم، وأن نضع الرجل المناسب في المكان المناسب.

وبإسلام هؤلاء القادة بدأ المعسكر المكي ينهار أمام القوة الإسلامية المتنامية.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

__________________________________________

[1]: مغازي الواقدي، 2/ 746، دلائل النبوة للبيهقي، 4/ 349.

[2]: مغازي الواقدي، 2/ 746. دلائل النبوة للبيهقي، 4/ 349.

[3]: مغازي الواقدي، 2/ 747، دلائل النبوة للبيهقي، 4/ 350.

[4]: مغازي الواقدي، 2/ 747، دلائل النبوة، 4/ 350.

[5]: خاتم النبيين، 3/ 856.

[6]: مغازي الواقدي 2/ 743، البداية والنهاية، ج 4، ص 237.

[7]: دلائل النبوة للبيهقي، 4/ 351، السيرة النبوية لابن كثير، 3/ 453.

[8]: رواه مسلم 236- [192-121].