سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الثانية والأربعون| سرايا إلى القبائل وكتب إلى الملوك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

بعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من يهود خيبر وما حولها، وكَسَرَ شوكتهم، وأَمِنَ جانبهم، أرسل سراياه لضربِ قبائلِ غطفانَ، التي شاركت في حصار المدينة يوم الأحزاب.

وكان لهذه السرايا أهدافٌ كثيرة، منها: إرهابُ العدو الداخلي في المدينة وما حولها، وبسطُ هيبة الدولة في نفوس المتربصين بها، وتدريبُ الصحابة على اتقان فنون القتال، والهدف الأهم تبليغ الدعوة، ونشر الإسلام في ربوع الأرض؛ ولهذا بدأ بمراسلة الملوك ورؤساء القبائل، فاختار سفراءه لهذه المهمة الأَكْفَأَ من بين أصحابه، ممن يتقنون لغة من أُرْسِلُوا إليهم، ويتحلون بالعلم، والفصاحة، والصبر، والشجاعة، والحكمة، وحسن المظهر.

ولم يكن فيهم من يُمَثِّلُ الأنصار ولا بني هاشم عائلة الرسول أحدٌ، ومَثَّلَ قريشاً واحد فقط؛ وفي هذا إشارة إلى أن هذه الدعوة ليست قبليةً، وأن المناصب الهامة لا تعطى إلا لمن يملك الكفاءة العالية؛ فالقائد الحق: هو الذي ينظر إلى مصلحة الأمة، لا مصلحةِ القبيلة، ويهتم بشؤون الشعب، لا شؤونِ العائلة.

ويدل عمله – صلّى الله عليه وسلم – على أنه ينبغي على المسلمين أن يتعلموا لغات الأمم والأقوام، الذين يقومون بدعوتهم إلى الإسلام، وتعريفِهم بمبادئه وأحكامه.

راسل النبي -صلى الله عليه وسلم- هرقلَ زعيمَ أكبرِ وأقوى دولةٍ على وجه الأرض؛ دولةِ الرومان، فحرص على إظهار عزة الإسلام، فبدأ باسمه قبل اسم هرقل، فقال: من محمد بن عبد الله ورسوله، الى هرقل، ثم دعاه مباشرة إلى الدخول في الإسلام بأسلوب فيه تهديد، فقال: «أسلم تسلم»، وحفظ له مكانته، حين قال: «إلى هرقل عظيم الروم».

وجمع بين الترغيب بقوله: «أسلم يؤتك الله أجرك مرتين» وبين الترهيب بقوله: «فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين» [1].

واختار الآية المناسبة، التي تعبر عن قواسمَ مشتركةً بين الأمة المسلمة، وبين أهل الكتاب؛ ليبني الجسور، ويجعل هرقل يفكر بإيجابية.

وهكذا كان الخطاب لكل الزعماء الذين راسلهم متشابهاً، مع اختلافات يسيرة جداً، تناسب البلدَ المرسلَ إليه، والدينَ الذي يدينون به.

ومن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم طَمْأَنَةُ الملوك على ملكهم، إن أسلموا، أو هادنوا، ففي رسالته إلى المنذر بن الحارث، «وأدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يَبْقَى لك مُلْكُكَ» [2]، وقال للمنذر بن ساوى؛ حاكم البحرين:«أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَجْعَلُ لَكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ» [3]، وقال لجَيْفَرٍ وَعَبَّادٍ ابْنَيِ الْجُلَنْدِيِّ؛ مَلِكَيْ عُمَانَ:«فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما» [4].

إِلَّا أنَّ ردود الأفعال كانت متباينةً جداً، فمنهم: من أكرم سفير النبي، وأسلم هو وقومه، وأرسلوا بالهدايا الثمينةِ، كالمنذرِ بنِ سَاوَى مَلِكِ البحرين، وجَيْفرٍ وعَبَّادٍ ابني الْجُلَنْدِيِّ؛ صاحبي عمان، ومنهم من أسلم وأخفى إسلامه كالنجاشي ملكِ الحبشة، ومنهم من أحسن استقبال الوفد الإسلامي، إلا أنه لم يسلم، بل اكتفى بإرسال الهدايا كالمقوقس ملك القبط، وهرقلُ اهتم برسالته، فراح يسأل عنه، وتَأَكَّدَ من نبوته، فقال: «وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ، وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ» [5]، وكان على استعداد لأن يسلم لو سلم له ملكه، وهكذا آثر الحياة الدنيا على الآخرة؛ فعادى المسلمين، وجيّش الجيوش لحربهم، فخسر الدنيا والآخرة.

وأما كسرى فقد مَزَّقَ الكتاب، فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَزَّقَ اللَّهُ مُلْكَهُ» [6]، فمزّقه الله شر ممزق؛ فقتله ولده، وتداول على عرشه خلال أربع سنوات عشرة ملوك، ثم فتحها المسلمون.

وأما شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْغَسّانِيّ، فقد أمر بسفير النبي فَأُوثِقَ رِبَاطًا، ثُمّ قَدّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ صَبْرًا [7]؛ مما كان سبباً في غزوة مؤتة. وفي هذه الفترة بدأت الوفود تفد إلى المدينة من مختلف الجهات تعلن إسلامها وتدخل في دين الله أفواجاً. وممن أسلم في هذه الفترة من كبار قادة العرب: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

________________________________________

[1]: رواه البخاري، 4553.

[2]: ذكره الواقدي بدون إسناد كما في (البداية): 4/ 268.

[3]: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، 2/ 338.

[4]: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، 2/ 335.

[5]: البخاري، 4278، ومسلم، 1394.

[6]: معرفة السنن والآثار، 18459.

[7]: مغازي الواقدي، 2/ 755.