سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الحادية والأربعون| غزوة خيبر

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

تمادى يهود خيبر بالكيد للإسلام حتى أصبحوا مصدر خطرٍ كبيرٍ على الدولة الإسلامية النَّاشئة، فسار النبي- صلى الله عليه وسلم- إليهم بألف وأربعمائة مقاتل؛ هم أهل بيعة الرضوان، وكان ذلك بعد صلح الحديبية، فلما أشرف على خيبر بَيَّتَهُم، فلما أصبح ولم يسمع أذاناً أغار عليهم، وهو يقول: «اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ. قَالَهَا ثَلاَثًا» [1]. وفيه دليل على جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة من غير إنذار.

وبدأت تنهار حصونهم، وقد واجه المسلمون مقاومةً عنيدة عند حصني الْوَطِيحِ وَالسُّلَالِمِ، «فَحَاصَرَهُمْ النبي الكريم بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، فخَرَجَ مَرْحَبٌ الْيَهُودِيُّ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فبرز له عليٌّ فقتله، ثُمَّ خَرَجَ أَخُوهُ يَاسِرٌ، يَقُولُ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخَرَجَ إليه الزُّبَيْرُ فَقَتَلَهُ؛ ممَّا أَثَّرَ سلبياً على معنويات اليهود، وأيقنوا بالهلاك، فسألوا النبي أن يُجْلِيَهُم، ويَحْقِنَ دماءهم، ويتركوا له الأموال، فوافقهم على ذلك، فَسَأَلوه أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا، عَلَى أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ: نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» [2].

«فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ فَدَكَ، فَنَزَلُوا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَفْ [3] عَلَيْهَا بِخَيْلٍ، وَلَا رِكَابٍ» [4]. وحاصر المسلمون يهود وادي القرى وتيماء عدة ليالي فاستسلموا، وصالحوا على مثل صلح خيبر.

وفي هذا دليل على مشروعية عقد المساقاة، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وصاحبا أبي حنيفة. وأما المزارعة فقد منعها قسم كبير ممن صحح عقد المساقاة، منهم الشافعية، إلا أن يكون عقد المزارعة تبعاً للمساقاة.

وقُسِّمَتْ أربعة أخماس غنائم خيبر بين الغانمين للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، والخُمس الباقي لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.

وَوُزِّعَتْ السبايا على المجاهدين وحُرِّمَ عليهم وطؤهن إلا بعد استبرائهن بحيضةٍ، إن كن غير حوامل، وإن كن حوامل، فبوضع حملهن.

«واصطفى النبي من بين السبايا صفية بنت حيي بن أخطب لنفسه، فأسلمت، فَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ مَهْرَهَا عِتْقَهَا» [5].

وأهدت يهودية للنبي شاة محشوة بالسم، فأخبره الذراع، فقال لأصحابه ارفعوا أيديكم، وجُمِعَ له اليهود، «قَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ» [6]. «وعفا عنهم، فلما مات بشر بن البراء؛ مما أكله من الشاة المسمومة، أَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، فَأَمَرَ بها فقتلت» [7]. وقد بلغ قتلى اليهود في معارك خيبر ثلاثةً وتسعين رجلاً، واستشهد من المسلمين قيل: خمسة عشر، وقيل: عشرون.

«وقال عَلِيِّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ: نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ» [8].

مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً على تَحْرِيمُ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتُهُ، وَتَحْرِيمُهُ. أما متعة النساء: فقد قال النووي: كانت حلالاً قبل خيبر، ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم الفتح؛ وهو يوم أوطاس؛ لاتصالها بها، ثم حرمت يومئذٍ، بعد ثلاثة أيام تحريماً مؤبداً إلى يوم القيامة.

والإجماع على حرمتها، ولم يخالف في ذلك إلا الروافض، وخلافهم لا ينقض إجماعاً.

وقَدِمَ جعفر بن أبي طالب مع مجموعة من الحبشة على رسول الله، وهو في خيبر، (فقبّل بين عينيه والتزمه، وقال: ما أدري بأيهما أنا أُسَرُّ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر) [9]، وأسهم لهم من الغنائم، وفيه دليل على جواز إشراك من حضر توزيع الغنائم فيها، بعد استئذان أصحاب الحق.

ويدل أيضاً على مشروعية تقبيل القادم والتزامه، إذا كان قادما من سفر، أو طال العهد به.

«واسْتَعْمَلَ النبي رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ النبي: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لاَ تَفْعَلْ، بِعْ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» [10].

وفيه دليل على (حرمة ربا الفضل في المطعومات)، فأرشد النبي إلى وسيلة أخرى سائغةٍ لا ربا فيها، وهي أن يبيع الرديء بالدراهم، ثم يشتري بها الجيد. ولا يعتبر ذلك حيلة محرمة.

ثم إن يهود خيبر مكثوا يزرعون الأرض على النصف من نتاجها، إلى أن كانت خلافة عمر -رضي الله عنه- فَعَدَوْا على عبد الله بن عمر، وهو نائم، فَرَمَوا به من فوق بيت، فَفُدِعَتْ يداه ورجلاه [11]، فأخرجهم عمر من الجزيرة العربية إلى تيماء وأريحا.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

_____________________________________ 

[1]: رواه البخاري، 371، ومسلم، 84/ 1365.

[2]: رواه مسلم 6/ 1551.

[3]: الإيجَافُ: سُرْعَةُ السَّيْرِ. النهاية، 5/ 137.

[4]: سنن أبي داود، 3016.

[5]: السنن الكبرى للنسائي، 8606.

[6]: رواه البخاري، 3169.

[7]: سنن أبي داود، 4513.

[8]: رواه البخاري 4216، ومسلم 29/ 1407.

[9]: الطبراني في الصغير (30)، وفي الأوسط (2024)، وفي الكبير (1470)، والحاكم (3/ 408 – 409)، ومجمع الزوائد (9/ 271 – 272).

[10]: البخاري، 2983. ومسلم، 95/ 1593.

[11]: الفَدَعُ: بالتحريك: هو زَيْغٌ بين القَدَمِ وبين عظم الساق، وكذلك في اليد وهو أن تزول المفاصل عن أماكنها. النهاية، 3/ 376.