سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الأربعون| صلح الحديبية (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

 «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ عُثْمَانَ بن عفان، فَبَعَثَهُ إلَى قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبٍ، وَإنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، فَخَرَجَ عُثْمَانُ إلَى مَكَّةَ، فَبَلَّغَهُمْ مَا أُرْسِلَ بِهِ، وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ، فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ على أن لا يفروا» [1].

فلما ترامى أمر البيعة إلى مسامع قريش داخلها الرعب، وسعت للصلح بكل وسيلة، فأرسلت رجلاً لم يكن من الصقور كخالد وعكرمة وأبي سفيان بل من الحمائم، فقد كان معروفاً بهدوئه ورزانته وطيبته، هو سهيل بن عمرو، فلما رآه النبي مُقْبِلًا،  «قَالَ: قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ تَكَلَّمَا وَأَطَالَا الْكَلَامَ وَتَرَاجَعَا حَتَّى جَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ» [2].

  • وهذه أهم بنوده.
  1.  يَرْجعُ المسلمون عَامَهُم هَذَا، وَإِذَا كَانَ العَامُ القَابِلُ دَخَلُوهَا فَأَقَامُوا بِهَا ثَلَاثًا، مَعَهُمْ سِلَاحُ الرَّاكِبِ، وَلَا تَتَعَرَّضُ قُرَيْشٌ لَهُمْ بِأَيِّ أَذَى.
  2.  مَنْ أتَى مُحَمَّدًا مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَليِّهِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَرُدُّوه عَلَيْهِ.
  3. وَضْعُ الحَرْبِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهِنَّ النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.
  4. مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ في عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فيه، ومَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ في عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ.

كانت بعض البنود على المسلمين قاسية؛ لأنهم ينظرون إليها بمعطيات العقول؛ ولذلك اعترض عليها عمر بشدة، بينما النبي عليه الصلاة والسلام وافق عليها؛ لأنه ينظر إليها بمعطيات النبوة والوحي؛ ولذلك كانت لصالح المسلمين جملة وتفصيلاً، ولم تستفد منها قريش إلا ما لا قيمة له.

  • أما البند الأول: فإنه يحفظ لقريش نسبياً ماء الوجه، وبعد عام سيكون انتصاراً مهولاً للمسلمين، الذين أصبحت لهم دولة قوية تُفْتَحُ لها أبواب مكة، ويَخْرُجُ أهلها منها، ويقيم المسلمون فيها ثلاثة أيام، ومثل هذا لم تفعله قريش مع أية قوة فيما مضى؛ وبناء عليه تنهار مكانة قريش في نظر العرب أمام دولة المسلمين الناشئة.
  • وأما البند الثاني: فهو أيضاً لصالح المسلمين؛ لأن من ارتد فبقاؤه بين المسلمين خطر عليهم؛ لأنه سيكون عيناً للمشركين على المسلمين، ينقل أخبارهم، ويدل على عوراتهم.

وأما لزوم إعادة من جاء مسلماً إلى المشركين؛ فإنه قد يُكَلَّفُ بمهمة؛ فيكون عيناً للمسلمين على المشركين، وقد يقوم بالدعوة للإسلام سراً، وقد يشكل مع إخوانه قوة تصيب المشركين بأذى في داخل مكة أو خارجِها، وهذا ما فعله أبو بصير حين رده النبي عليه الصلاة والسلام، خَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ، وَكلما تَفَلَّتَ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ لَحِقَ به، حَتَّى أصبحوا قوة لَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ لِقُرَيْشٍ خَرَجَتْ إِلَى الشَّامِ إِلَّا اعْتَرَضُوها، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنَاشِدُهُ اللهَ وَالرَّحِمَ، لَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ، فَهُوَ آمِنٌ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ [3]، وألغي هذا البند من المعاهدة.

  • وأما البند الثالث: فهو طلبٌ إسلاميٌّ؛ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لبديل بن ورقاء، «فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً» [4]. وذلك أن دولة الإسلام عمرها سِتُّ سنوات فقط، تحتاج إلى التعريفِ بها، ودعوةِ الناس للدخول فيها، أو لتأييدها والتحالف معها، وهذا سيكون عسيراً جداً إلا في ظروف السلام والبعد عن الحروب، فلمّا حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين، وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مفصّلة، فمالت نفوسهم إلى الإيمان، حتى دخل في تينك السنتين مثلُ من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر، فقد كان عدد المسلمين في صلح الحديبية ألف وأربعمائة، وفيهم أطفال ونساء، وبعد سنتين خرج النبي لفتح مكة بعشرة آلاف مقاتل. وأما قريش فماذا تستفيد؟ فهي لا تحتاج إلى سلام حتى تُعَرِّفَ الناس بدينها؛ فالعرب يعرفون عن دينهم كل شيء.
  • وأما البند الرابع: فإن قريشاً لا تستفيد منه شيئاً؛ لأنها دولة عريقة وقوية يسهل على أي قبيلة أن تتحالف معها دون انتظار مثل هذه المعاهدة، لكن القبائل التي تريد أن تحالف المسلمين ستتردد ألف مرة؛ خوفاً من بطش قريش وحلفائها. وهذا البند بالذات هو الذي سيكون سبباً في فتح مكة المكرمة بعد سنتين فقط.

وصدق الله الذي أنزل على نبيه وهو عائد من صلح الحديبية ﴿إنا فتحنا لك فتحا مبينا﴾ [5].

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

________________________________________

[1]: شرح مشكل الآثار، 5771.

[2]: مسند الإمام أحمد، 18910.

[3]: دلائل النبوة للبيهقي 4/ 108.

[4]: رواه البخاري 2731.

[5]: سورة الفتح، 1.