سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة التاسعة والثلاثون| صلح الحديبية (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

(رَأَى النبي فِي النّوْمِ أَنّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ، وَحَلّقَ رَأْسَهُ، وَأَخَذَ مِفْتَاحَ الْبَيْتِ، وَعَرّفَ مَعَ الْمُعَرّفِينَ) [1]، فاستنفر أصحابه إلى العمرة؛ فأسرعوا وتهيئوا للخروج؛ لينالوا شرف العمرة معه، واستنفر من أسلم من الأعراب؛ خشيةَ أن تحاربه قريش، فتثاقل كثير منهم، وقالوا شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا. وبلغ عدد الذين خرجوا معه ألفاً وأربعمائة.

وقلد النبي صلى الله عليه وسلم هديه وأشعره [2]، وتَقَصَّدَ أن يحرم من ذي الحليفة؛ لتكون رسالة لقريش ومن وراءهم أنه لم يخرج لقتال، بل لأداء مناسك العمرة؛ ليؤكد للقبائل أن تلك المحالفات التي تعقدها قريش معهم ضد المسلمين ظالمة، إذ لو كانت قريش صادقةً في تعظيم شعائر الله، فلماذا تحارب الذين يعظمونها؟ فلم يبق للعرب حجةٌ للتحالف معهم ضد المسلمين.

وللحذر أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً مشركاً من خزاعة اسمه بشر بن سفيان؛ ليأتيه بخبر قريش؛ مما يدل على جواز الاستعانة بالمشرك المؤتمن فيما دون القتال.

فلما رجع قال للنبي: هَذِهِ قُرَيْشٌ، قَدْ سَمِعَتْ بِمَسِيرِك، فَخَرَجُوا مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ [3]، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النّمُورِ، وَقَدْ نَزَلُوا بِذِي طُوى، يُعَاهِدُونَ اللهَ لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ أَبَدًا [4]. «فاستشار أصحابه، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا البَيْتِ، لاَ تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ، وَلاَ حَرْبَ أَحَدٍ، فَتَوَجَّهْ لَهُ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ. قَالَ: امْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ» [5].

وهكذا يكون القائد، يستشير العقلاء وأهل الرأي، فيختار من الرأي أقومه، ثم يُقْدِمُ لا يبالي بالعواقب.

اعترض خالد بن الوليد بمائتي فارس طريق المسلمين فغَيَّرَ النبي طريقه تفاديًا للصدام.

وبَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ [6] فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتْ [7] القَصْوَاءُ، خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ»، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا [8].

وترك ما أشار به أبو بكر، ثم نزل في أقصى الحديبية، فجاءه بديل بن ورقاء الخزاعي، فقال: إني تركت قريشاً نزلوا مياه الحديبية، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فَقَالَ رَسُولُ الله: صلى الله عليه وسلم إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُم الْحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمِ، فَإنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَينِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإنْ أَظْهَرْ، فَإنْ شَاءُوا أنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا [9]، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي [10]، وَلَيُنْفِذَنَّ الله أَمْرَهُ [11]. فبَلَّغَ بديلٌ قريشاً مَا قاله النبي: فكلفوا عروة بن مسعود أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم في تفصيل ما كلّم به بُدَيْلاً، فقال عروة للنبي: إني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفرّوا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات أنحن نفرّ عنه وندعُه [12]؟! فكانت رسالةً قويةً من أبي بكر إلى قريش.

وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ المِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ [13]. وقيام المغيرة على رأس النبي مستثنى من عموم المنع، في حالة قدوم رسل للعدو إلى الإمام أو الخليفة؛ إظهاراً للعزة الإسلامية، وتعظيماً للإمام، ووقايةً له من المفاجآت غير المحسوبة.

ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ، وَكِسْرَى، وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا [14]. ولم يطلب النبي صلى الله عليه وسلم منهم ذلك، وإنما هو الحب. وفي ذلك دليل على جواز التّبرك والتوسل بالنبي وآثاره في حياته وبعد وفاته؛ لأن ذات النبي لا تأثير لها في الأشياء حياً ولا ميتاً.

فلما رجع عروة قال: أي قوم إنه قد عرض عليكم خُطّةَ رشد فاقبلوها، فقبلت قريش ما عرضه عليها عروة، وأرسلت الوفد تلو الوفد حتى تم الصلح، وكتبت المعاهدة.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

____________________________________

[1]: أي وقف على عرفة.

[2]: الإشعار: أن تجرح صفحة سنام الناقة. والتقليد: وضع قطعة من الجلد في عنق الناقة.

[3]: العوذ: جمع عَائِذ، وَهِي من الْإِبِل الحديثة النِّتَاج، والمطافيل: الَّتِي مَعهَا أَوْلَادهَا يُرِيد أَنهم خَرجُوا وَمَعَهُمْ النِّسَاء وَالصبيان، وَهُوَ على الِاسْتِعَارَة.

[4]: سيرة ابن هشام، 2/ 309.

[5]: رواه البخاري، 4178.

[6]: اسم صوت تزجر به الناقة.

[7]: أي حرنت.

[8]: رواه البخاري، 2731.

[9]: أي استراحوا.

[10]: ينفصل مقدم عنقي أي حتى أقتل.

[11]: رواه البخاري، 2731.

[12]: رواه البخاري، 2731.

[13]: رواه البخاري، 2731.

[14]: رواه البخاري، 2731.