سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الثامنة والثلاثون| غزوة بني قريظة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

رُمِيَ سيدُ الأوس سعدُ ابنُ معاذ رضي الله عنه يوم الخندق بسهم في أكحله، وكان بنو قريظة قد نقضوا العهد مع المسلمين، وغدروا بهم، وانضموا إلى الأحزاب، فدعا سعد ربه، فقال: (اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة) [1]، وكانوا حلفاءه قبل الإسلام، فلما هُزِمَ الأحزاب، أسقط في يد بني قريظة، وتحصنوا في صياصيهم، ووَضَعَ رسول الله السلاح، فجاء جبريل عليه السلام على ثناياه النقع، فقال: أقد وضعتَ السلاح؟ والله ما وَضَعَتْ الملائكة بعدُ السلاح، اُخْرُجْ إلى بني قريظة فقاتلهم. فنادى النبي عليه الصلاة والسلام في المسلمين: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ» [2].

مما يدل على مشروعية الاجتهاد في الفروع، واعتبارِ كل من المتخالفين معذوراً ومثاباً، سواء قلنا إن المصيب واحدٌ أو متعدد.

وحاصرهم المسلمون خمسا وعشرين ليلة حتى جَهَدَهُم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فحاولوا أن يظفروا بصلح كالذي ناله إخوانهم بنو النضير من قبل، فأبى المسلمون إلا أن يستسلموا دون قيد أو شرط؛ لأن غدرهم الشائن أوغر عليهم الصدور، فلم يُبْقِ فيها بقية لعفو أو مسامحة؛ فاستسلموا لحكم رسول الله، فأمر بهم أن يُقَيَّدُوا، وَيُنْقَلُوا إلى محبسهم في المدينة.

(ولما اشتد بهم الحصار، أذعنوا إلى أن ينزلوا على حكم رسول الله، فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله، قد فعلت في موالي الخزرج -بني قينقاع- ما علمت، فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذلك إلى سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله في طلب سعد، فلما جاء التف حوله الأوس، وقالوا: يا سعد، أجمل في مواليك؛ فإن رسول الله قد حكَّمك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال‏: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم) [3].  

فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ، قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ المُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، قَالَ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلِكِ» [4].

وقد أجمع العلماء على جواز تحكيم حَكَمٍ مسلم عادل صالح للحكم في أمور المسلمين وفي مهامّهم العظام؛ رداً على الخوارج، الذين أنكروا على سيدنا عليّ التحكيم، وناظرهم ابن عباس وألزمهم الحجة.

كما استدل عامة العلماء بقول النبي للأنصار: «قوموا إلى سيدكم سعد»، وغيره من الأدلة على مشروعية إكرام الصالحين والعلماء، وأهل الفضل، بالقيام لهم عند إقبالهم، وليس هذا من القيام المنهي عنه، وإنما ذلك فيمن يقومون عليه وهو جالس ويَمْثُلُون قياما طول جلوسه. وقال النووي: (القيام للقادم من أهل الفضل مستحب، وقد جاء فيه أحاديث، ولم يصح في النهي عنه شيء صريح) [5].

وحُفرت الخنادق بسوق المدينة لتنفيذ هذا الحكم، وسيق إليها مقاتلة اليهود أرسالاً؛ ليدفعوا ثمن خيانتهم وغدرهم.

وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في منصرفه عن غزوة الأحزاب: «الآن نغزوهم، ولا يغزوننا» [6].                                                            

وهذا يعني أن الحرب الدفاعية في الإسلام ما كانت إلا مرحلة من مراحل الدعوة، وقد جاءت من بعدها مرحلة دعوة الناس كلهم إلى الإسلام بحيث لا يُقبل من الملاحدة والمشركين إلا الإسلام، ولا يُقبل من أهل الكتاب إلا الدخول فيه، أو الخضوع تحت حكمه العام.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

_____________________________________________________

[1]: رواه أحمد في المسند، 2509.

[2]: رواه البخاري، 946.

[3]:السيرة النبوية (من البداية والنهاية لابن كثير) 3/ 233.

[4]: رواه البخاري، 3043.

[5]: النووي على مسلم: 12/ 93.

[6]: رواه البخاري،3884.