سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية|المقالة الخامسة والثلاثون| غزوة ذات الرقاع

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

أهم أحداث غزوة ذات الرقاع:

  • أولاً: كان جبريل عليه السلام غَدَّاءً على النبي ورَوَّاحاً، يخبره بما يجري حوله من كيد الكائدين، ومع ذلك كان النبي شديد الحذر يقظاً، ينشر عيونه بين القبائل؛ لنقل الأخبار إليه في الوقت المناسب، حتى يتخذَ التدابير السريعة لمعالجتها قبل تفاقم الأوضاع؛ لذا لما نمي إلى سمعه أن قبيلتي محارب وبني ثعلبة من غطفان تتجمعان للهجوم على المدينة باغتهم، وتوغل في بلادهم، حتى وصل إلى موضع يقال له نخل، فوجدهم قد هربوا إلى الجبال مع أن أعدادهم أضعاف أضعاف المسلمين، وهذا ليس له تفسير إلا أن جيش المسلمين مؤيَّد من الله بالرعب، فغزوة ذات الرقاع هزت قبائل غطفان من الأعماق، وفرضت عليهم احترام المسلمين، فلم يعودوا  يفكرون بغزوهم، وأصبحوا ينظرون بإيجابية لهذا الدين، ويقفون وقفة جادة للتأمل في حَقِّيَّتِه.
  • ثانياً: صلى النبي عليه الصلاة والسلام بالمسلمين صلاة الظهر، والمشركون في مواجهتهم، وفاتهم أن يباغتوا المسلمين في سجودهم، فقرروا فعل ذلك في صلاة العصر، فأخبر جبريلُ النبيَّ بنيتهم، فصلى النبي العصر بالمسلمين صلاة الخوف، «فَكَانَ النَّاسُ طَائِفَتَيْنِ، طَائِفَةً بِإِزَاءِ عَدُوِّهِمْ، وَطَائِفَةً صَلَّوْا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم، فَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَكَانُوا مَكَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا بِإِزَاءِ عَدُوِّهِمْ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللهِ رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ لِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ وَلِرَسُولِ اللهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ»[1]. وكان بإمكانهم أن يصلوا جماعتين، ولكن كان القصدُ اجتماعَهم على الاقتداء برسول الله، وتلك فضيلة لا يُفَرَّطُ فيها عند إمكان تحقيقها. ومن ناحية أخرى تستحب وحدة الجماعة قدر الإمكان، وتَعَدُّدُ صلاة الجماعة في فريضة واحدة مكروه لغير ضرورة.
  • ثالثاً: وفي هذه الغزوة تسلل أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفه معلق بشجرة ينام تحتها، ونادى من يمنعك مني، ويفتح النبي عليه الصلاة والسلام عينيه على المشهد الرهيب، الذي تخور أمامه العزائم، وتُفَلُّ لهوله القوى، فقال: بكل هدوء وثبات وثقة (الله)، فامتلأ قلب المشرك بالرعب، وأرعدت فرائصه، وسَقَطَ السيف من يده، وتناوله الرسول فَقَالَ: «مَنْ يَمْنَعُكَ»؟ قَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ، قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ»؟ قَالَ الأَعْرَابِيُّ: أُعَاهِدُكَ أَنِّي لا أُقَاتِلُكَ، وَلا أَكُونُ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَجَاءَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ[2].
  • رابعاً: وفي هذه الغزوة رمى رجل من المشركين (عَبَّادَ بن بشر) الذي كان حارساً للمسلمين وهم نيام، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ وَثَبَتَ قَائِمًا ثُمَّ رَمَاهُ بِسَهْمٍ آخَرَ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ وَثَبَتَ قَائِمًا ثُمَّ عَادَ لَهُ بِثَالِثٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ[3]، وأين العجب في أن ينصرف رضي الله عنه بكله إلى مناجاة ربه من خلال الآيات التي يتلوها في صلاته في هدأة من الليل، ويفنَى بمن يناجيه عن تلك السهام التي تنشب في جسمه، فلا يجد لها ألماً؛ ولذلك مضى في قراءته، ولولا الخوف من إضاعة الثغر الذي أمره رسول الله بحفظه، لقطع الغادر نفسه قبل أن يقطع صلاته، أو ينهي قراءة سورته.
  • خامساً: وكان جابر بن عبد الله عَلَى جمل هزيل في أُخْرَياتِ النَّاسِ، فأدركه النبي، فنخَسهُ بمحجنه، ودعا، فَجَعَلَ يسابق الريح، وساير النبيَّ عليه الصلاة والسلام في الطريق، فراح النبي يواسيه، ويلاطفه بعبارات تناهت عذوبة، وعرض عليه شراء جمله؛ ليجعل من ذلك وسيلة لمساعدته، فقد استشهد أبوه يوم أحد، وترك له أسرة كبيرة، وهو فقير رقيق الحال، فقَالَ: «بِعْنِيهِ بِوَقِيَّةٍ»، فَبِعْتُهُ، فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلاَنَهُ إِلَى أَهْلِي، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ وَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، فَأَرْسَلَ عَلَى إِثْرِي، قَالَ: «مَا كُنْتُ لِآخُذَ جَمَلَكَ، فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ، فَهُوَ مَالُكَ[4].

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

……………………………………………………………………………….

[1]: أحمد في المسند، 15159.

[2]: أحمد في المسند، 15159.

[3]: أحمد في المسند، 14704.

[4]: البخاري، 2718.