سلسلة كمال الإسلام وجماله في العقيدة والأحكام والأخلاق | المقالة الثالثة | الشيخ أنس الموسى



          •  الكمال والرحمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا، ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علماً ينفعنا.

وبعد:

 

فهذه هي المحاضرة الثالثة في سلسلة “كمال الإسلام في العقيدة والأحكام والأخلاق”، وقد ذكرنا في المحاضرة الماضية أن العبودية هي الوصف الذي ألبسه ربنا سبحانه لجميع خلقه، وأن العبادة هي الوظيفة التي خلق الله الإنسان لها، وأن هذه العبادة تنقسم لقسمين إلى ما يمارسه الإنسان بينه وبين الله، وإلى ما يمارسه الإنسان بينه وبين خلقه، وذكرنا قول الله عزوجل: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون 115].

 

اليوم نريد أن نتابع ونقول: لمّا أراد الله أن يضع لنا منهجاً نعبده فيه، كان الإسلام هو المنهج الذي اختاره ربنا ليكون نظاماً ينظم علاقتنا بربنا، وبخلقه سبحانه، وقد قال ربنا شاهداً على هذا: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً[المائدة 3] فهذه شهادةٌ من الله تبارك وتعالى لهذا النظام الديني الإسلامي الذي أنزله ربنا، وأكمله، وهو الرحمة التي أتمها ربنا سبحانه، وهو الدين الذي ارتضاه لهذه الإنسانية.

لقد كانت رسالة نبينا محمد هي الرحمة الشاملة لجميع العالمين فقال عنها ربنا سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء 107]، وقال عن هذه الرسالة نبينا «إنما أنا رحمةٌ مهداة» [1] فنبوَّتُه رحمة، وسنته رحمة كذلك، ووظائفه التي كلّفه الله بها رحمة كذلك.

إن الله عزوجل عندما كمَّل الإسلام لم يكمِّله من زاوية واحدة فقط؛ فليس الإسلام كاملاً في جانب العبادات فقط، أو الأخلاق فقط، أو العقيدة فقط، وهو في نفس الوقت ناقصٌ في بقية الجوانب؛ بل الإسلام الذي شهد الله له بالكمال كامل في العقيدة، والأحكام، والأخلاق، فهذه هي الرحمة للعالمين التي تحدثنا عنها في رسالة سيدنا محمد ، والتي هي عنوان هذه الشريعة، ووظيفة الرسول .

المسلم يتذوق الكمال في هذا الدين في كل أموره، وأنَّى اتجه لن يجد إلا الكمال، ويخطئ ذلكم التاجر الذي يبحث عمَّن يُقْرِضُه مبلغاً من المال ليوسِّع تجارته فلا يجد إلا القرض الربوي المحرَّم الذي حرَّمه الإسلام؛ فيظن جهلاً منه أن الإسلام يقف في وجه ربحه، وسعادته، وما درى هذا التاجر الذي لم ينظر إلا من زاوية ضيقة، أنه لو تذوَّق أن هذا الحرام يفضي لمفاسد تغلب مصلحته الجزئية التي يسعى لها، ولعلم أن هذا التشريع الذي حرَّم هذا النوع من المعاملات المالية؛ هو محض الرحمة من الله تبارك وتعالى.


تعلو الأصوات التي تنادي بمساواة الرجل للمرأة في الميراث، والتي تدَّعي أن الإسلام هَضَمَ حقها عندما فرق بينها، وبيّن الرجل في بعض مسائل الميراث، وذلك عندما قال ربنا سبحانه وتعالى: ﴿يُوص۪يكُمُ اللّٰهُ ف۪ي اَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْاُنْثَيَيْنِۚ[النساء 11]، ولو نظر دعاة مساواة المرأة للرجل في الميراث -بإنصاف إلى هذه القضية- لعلموا بما لا يقبل الشكّ أن الكمال كل الكمال في هذا التفريق.


سبق وبيَّنا: أنه لا يجوز أن نقول: إن الإسلام كامل في كلياته، ناقص في جزئياته، فلا يجوز أن ندعي كمال الإسلام في مجال العبادات، وندعي بالمقابل نقصانه في الحرب والقتال في سبيل الله مثلاً، فنحن نعتقد أن قول الله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً [المائدة 3]،هو شهادة من الله بكماله في كل الجوانب ولا يوجد جزئية من جزئيات الشريعة، والحياة، إلا وهي تشير صارخة بكمالها، وكمال تشريعها.

نحن نعلم أن الإسلام بمعناه العام: هو الخضوع لأوامر الله عزوجل؛ فالله كتب الإسلام على الكون كله بكل ما فيه، فهو بكل ما فيه خاضع مستسلم منقاد لرب العالمين.

لقد أمرنا ربنا سبحانه أن نسجد له بجباهنا، ولكنه أمرنا بسجود من نوعٍ آخر، هو سجود العقول، والأفكار والمشاعر والأحاسيس؛ وذلك من خلال الخضوع لأحكام الله، وأوامره؛ لأننا آمنا بعقيدة مطلقة قام عليها الدليل العقلي، والنقلي أن الله تبارك وتعالى هو الذي أنزل القرآن، وأرسل الرسل.

كما أن العاقل يتذوق الكمال الممزوج بصفحات هذا الكون، كذلك يجب أن يتذوق هذا الجمال في التشريع الذي تشتمل عليه صفحات كتاب ربنا، وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك ولا ريب أنها ستُقِرُّ، وتعترف أن الإسلام كامل.

 

    • مهمات:

1. فرقٌ كبيرٌ بين من يمتنع عن الحرام؛ لأن الله تعالى قال عنه بأنه حرام، وبين من يترك الحرام، وهو يشعر بلذة الاستجابة لأمر الله، مع القناعة التامة بكمال هذا التشريع.

 

2. فرق كبير بين من تكون علاقته مع الناس مُسَيَّجة بسياج الخضوع لأوامر الله عندما يقول هذا حلال، وهذا حرام فقط، وبين من يرى أن هذه الأحكام التي شرعها ربنا هي عين الرحمة، والكمال، والفضل من الله سبحانه

قال تعالى:﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ[الحجرات 7]، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ[التوبة 128]، وقال أيضاً: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا[الإسراء 9]، وقال أيضاً: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا[طه 124]، وقال أيضاً:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ  [الأنفال 24]، وقال أيضاً: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا  [الأنعام 122]، وقال أيضاً: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل 97].

كل هذه الآيات تشير إلى عظمة الشريعة، وما فيها من أحكام شملت علاقة الخلق ببعضهم، وعلاقتهم بخالقهم سبحانه، فربنا كما علَّمَنا، وأرشدنا للعبادة، وكيفيتها كذلك أرشدنا للطريقة الصحيحة للتعامل مع الخلق، والسبيل الأمثل لها.

لا نستغرب عندما نسمع قول الله عزوجل يقول: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ  [آل عمران 110]، كيف وصلت الأمة لهذه الخيرية؟ لا شك عندما يكون ربَّان سفينتها شخص كرسول الله ، الذي أخذ بيدها، بعد أن كادت تغرق في أمواج الشقاء في عباداتها، ومعاملاتها.

لم يربِّ رسول الله صحابته على العبادة، وقيام الليل فقط، بل ربَّاهم ليكونوا قدوة لغيرهم في كل خير، ربَّاهم لنشر الخير، والأمن والرحمة لقد علَّمُوا الإنسانية معناهما من خلال الإسلام، لقد فتحوا العقول قبل الحصون، وأسروا القلوب بنبيل الأخلاق قبل أن يأسروا الصناديد الأبطال، مصداق قول الله عزوجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ  [الأنبياء 107].

من المفترض أن البلاد التي هزَّ الإسلام حصونها، ودمَّر قلاعها؛ أن تخرج ثائرة ضد من مرَّغ كبريائها… المفروض أن تخرج ضدهم الثورات، كما يفعل كل شعب تعرض للانكسار و الهزيمة، لكن الذي حصل هو العكس، لقد أزال المسلمون الظلم عن هذه الشعوب بعد دخول أراضيهم، وما فرضوا عليهم الإسلام بقوة السِّنان، بل تركوهم وما يدينون. لقد دخل الإسلام آسِرَاً للعقول، والقلوب فبل أن يدخل الحصون والسدود.

إندنوسيا مثلاً أكبر بلد مسلم، لم يدخلها الإسلام بالسيف والقتال، بل دخلها بأخلاق التجار الذين يحملون كمال الإسلام، ونوره وهديه، صدق الله إذا قال: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء 9]، فهذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم تَمَثَّلَ في شخص رسول الله الأسوة الحسنة.

 

3. فرق بين أن نتكلم عن الإسلام على أنه موروث نتبادله عاطفياً، وبين أن يكون فكرة راسخة في عقولنا، ومبدأً نيّراً في أخلاقنا.

4. فرق بين أن تكون قضية كمال الإسلام خطبةً تُلْقَى على منبر، أو درساً يلقى في محراب، أو صفحة تكتب في كتاب، وبين أن تكون سلوكاً وواقعاً يعيشه المسلمون في حياتهم كلها؛ فيجب أن نخضع بعقولنا، وقلوبنا لأنوار قول الله عزوجل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً [المائدة 3].

 

5. فرق بين أن ترى أحكام الله حواجزاً وسدوداً تقف في وجه مستقبلك، وبين أن تراها حواجز تحجزك عن أودية الهلاك دنياً وآخرة.

6. بعض الناجحين من شباب المسلمين الذين كان للدين الإسلامي، ولكماله الدور الأكبر في نجاحهم من خلال: تعاليمه، وأخلاقه، وتشريعه، عندما يقدم نفسه في شرقٍ، أو غربٍ تجده يتنكَّر لفضل هذا الدين العظيم، الذي لولا تعاليمه، وهداياته لما حصل له هذا النجاح، فتراه يقدِّمُ نفسه ناسباً إياها للمؤسسة التي تخرج فيها دون أي إشارة لصاحب الفضل في نجاحه!!

أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخر الناس بقيس أو تميم

أنا الدَّاعي بإيماني أنا الإسلام رباني

سأُعْلِي رايتي دوماً وأحمي صف إخواني

شعاري دائماً واحد ودربي في الدُّنا خالد

نبينا للهدى رائد وبالإسلام أوصاني

لنا بمحمدٍ مثلٌ بالأصحاب نتصل

نسي هذا الناجح ما قدمه له المسجد، ونسي ما قدمته له الصلاة والقرآن، ونسي ما أرشده إليه الإسلام من كريم الأخلاق وجميل الطباع.

 

7. يسأل بعض الناس أين نِتَاجُ الإسلام؟ نقول له: لقد رأينا ثمار الإسلام في الرعيل الأول الذين رباهم رسول الإسلام فلم يكن أبو بكر الصديق ناجحاً في محرابه فقط، بل كان النموذج الأمثل للقائد والقيادة، ولو نظرنا لحال الصحابة بعد أن توفي قائدهم كيف استطاعوا، وخلال ساعات أن يختاروا من بينهم قائداً جديداً لهذه الأمة المحمدية، دون أي شحناء أو بغضاء أو حقد أو ضغائن، استطاعوا أن يختاروا أميراً جديداً دون أن تكون هناك أحزاب، ولا جماعات، بل إن التاريخ ليشهد كيف كان الناس يتدافعون خلافةَ رسول الله في قيادة الأمة كلهم يرفضها، وما سمعناه من بعض الخلاف لا يعدوا كونه تعبيراً عن الرأي الذي سمح به الإسلام.

 

وأخيراً أختم بنموذج فريد من النماذج التي ربى عليها الإسلام أبناءه قصة المرأة التي تقول لابنتها: “يا ابنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء فقالت لها يا أمتاه وما علمت ما كان من عَزْمَةِ أمير المؤمنين اليوم؟ قالت وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت إنه أمر منادياً فنادى ألا يُشَابَ (يخلط) اللبن بالماء فقالت لها يا بنية قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء” [2] 

هذه التربية في مدرسة الإسلام، هي التي أثمرت هذه الأمانة، والمراقبة لله عزوجل.

 

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] رواه ابن سعد في الطبقات (1/192)، ابن أبي شيبة في المصنف (11/504)، الحاكم في المستدرك (1/35).

[2] أخرج القصة أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده.