سلسلة علمني المصحف | يهدي إلى الرشد | المقالة الثانية | الشيخ أنس الموسى

 

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً بالعدل قائماً وللإيمان ناصراً وداعماً فالحمد لمن أكرمنا به، وأشهد أن لا إله إلا الله أنزل كتابه ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [يس 70].

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً ﷺ أيده الله بالمعجزات الباهرات التي من أجلِّها كتاب الله وجعله مهيمناً على سائر الكتب أتى به بما يُدهش الألبابَ ويثير الإعجاب، بلَّغهُ للخلق ونشرَ به العدل والوئام بين الأنام فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

وبعد:

فهذا هو اللقاء الثاني من سلسلة علمني المصحف وقد تحدثنا في اللقاء الماضي و أجبنا عن سؤال هام وهو لماذا الحديث عن المصحف؟ واليوم بمشيئة الله سنتحدث عن مسألة هامة أخرى من أهم المسائل المتعلقة بالمصحف ونجيب عن سؤال هام أيضاً وهو: كيف يهدي القرآن إلى الرشد؟ وكيف يهدي القرآن للتي هي أقوم؟

 

أيها الأحبة: يقرأ المسلمون القرآن فيحركون ألسنتهم بكلماته وتجويد حروفه في تلاوته ولكن – للأسف – لا يفكرون في وجوب تحريك قلوبهم وعقولهم في فهم معانيه، وكأن القرآن ليس إلاَّ كلاماً معدّاً للتلحين والتطريب ولا يُطلبُ من المسلم إلّا تلحينه والتسابق إلى إدارته على الأنغام والألحان.

إن ربنا أخبرنا أن القرآن يهدي إلى الرشد عندما أخبرنا ما قال الجن عنه: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ۝ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ [الجن 1-2] وأخبرنا أنه يهدي للتي هي أقوم عندما قال: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء 9].

يقول قتادة: ” إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم فأما داؤكم فالذنوب وأما دوائكم فالاستغفار”.

 

أيها الأحبة: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ آيةٌ تتجاوز في هدايتها حدود الزمان والمكان، فالمصحف يهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس مع بعضهم أفراداً كانوا أم حكومات، شعوباً أم دولاً ويقيم هذه العلاقات على أسس متينة لا تتأثر بالهوى ولا تَصْرِفُها عن غايتها المصالح والأغراض. 

يهدي للتي هي أقوم: في ضبط التوازن بين ظاهر الإنسان وباطنه بين عقيدته وعمله.

يهدي للتي هي أقوم: في جانب العبادة بالموازنة بين التكليف والوِسع والطاقة فلا مشقَّة في تكليفٍ يحملُ النفس على الملل والسآمة واليأس من الوفاء، ولا تخفيف وتسهيل حتى تصطبغ النفس وتعتاد على الرخاوة والاستهتار؛ فتنشأ الميوعة والتفاهة، ولا تتجاوز حدود الاعتدال وحدود الاحتمال لأنَّ المصحف يوازن بين الحقوق والواجبات بين الواقع والمأمول بين الوسع والطاقة؛ إنه القرآن يهدي إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها.

 

يهدي إلى الرشد: إنها صفة هذا القرآن العَجَب يهدي إلى استنارة العقل الذي ينقل الإنسان من الخطأ إلى الصواب ومن العوج إلى الهداية والسداد والرَّشاد.

والقرآن يهدي إلى الرشد ويسمو بالإنسان ليكون في طليعة الراشدين ﴿أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحجرات 7-8] وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء 51] وقال تعالى: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة 256]

ولأن القرآن يهدي إلى الرشد فإن الجن ما إن سمعوا بعض آيات كتاب الله حتى أعلنوا باعتزازٍ إيمانهم به؛ فكان هذا السماع كافياً لإعلان إيمانهم على الفور وبكل صراحة: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ۝ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ [الجن 1-2].

 

لنا أن نتسائل عن السر الذي أفضى إلى هذا الإيمان الفوري وما ميِّزَتُه؟ وكيف التقطه هذا النفر من الجن فأرادوا نشره لتعمَّ الفائدة لأقوامهم؟

إنه السر الذي تبلَّد أمامه إحساس كثير من الأقوام في عصرنا هذا عن إدراكه ففوتوا على أنفسهم فرصةً كبيرة لحياة الرُّشد. 

إنه السر الذي عناه القرآن بقول هؤلاء النفر من الجن ﴿إِنَّا سَمِعْنَا﴾، لقد استمعوا لهذه الآيات سماعَ متدبر متأمل راغب في الوصول للحق وإلى طريقٍ مستقيم فكان السماع مرةً أو مرتين كافياً وكفيلاً ليهتدوا إلى الرشد وإلى الطريق المستقيم. 

إنه تغيُّرَ حال هؤلاء المستمعين لَيَدُلُّنَا على تعريف هذا الرُّشد الذي بلغوه؛ أنه نوعٌ من الكمال الروحي والمعنوي تتسع دائرته لتستوعب كل مجالات الحياة. 

إنه القرآن إنه المصحف يخاطب مَلكاتٍ في النفوس لا يعلمها إلا الله وهو الذي جعل عمر بن الخطاب يؤمن يوم تَلت عليه أخته القرآن من سورة طه ﴿طه ۝ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه 1-2].

إن هذا السرَّ الموجودَ في القرآن هو الذي جَعَلَ الوليد بن المغيرة يقول في حالة من الدَّهَشِ وفي ساعة من الإنصاف: “إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمرٌ أعلاه مغدقٌ أسفله وإنه ليعلوا وما يُعلى وإنه ليَحْطِمُ ما تحتَه”.

أيها الأحبة: إنه من الجهل الشائن بعد قراءة القرآن قراءة تدبر آيةً آيةً وبعد متابعة سنةِ المصطفى سنَّةً سنةً أن يزعم زاعم أن القرآن كتابُ موعظةٍ نفسيةٍ محدودةٍ فقط أو أن محمداً كان يستهدف وصلَ الناس بالله عن طريق الدعاء والرجاء فقط.

لذا نقول بكل ثقة ووضوح: إنَّ الله لم يترك البشر دون نظام يضبط جميع أمورهم صغيرها وكبيرها ما دقَّ منها وما جلّ. 

 

أيها الأحبة: إن المطلع على علاقة المؤمنين اليوم بالقرآن ليُدرِكُ بما لا يدع مجالاً للشك أن القرآن مظلومٌ في حيواتنا الخاصة والعامة وأن الإسلام يكاد يضيع بين متظاهرٍ باعتناقه بعيدٍ عن حقيقته وبين مُتنكّرٍ له عن جهل أو غرض، أما القلة الواعية الفاقهة التي جعلت من القرآن وسيلةً إلى الرُّشد وإلى التي هي أقوم فتُوضعُ في طريقها العراقيل وتُنْسَجُ حولها الأباطيل.

 أيها الأحبة: لن يجيء بعد وفاة رسول الله ولن ينزل بعد القرآن وحيٌ، ولأن رسول الله تركنا على المَحجَّة البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلاَّ هالكٌ، ولأنَّ في هذا المصحف كلُّ ما يفتقرُ إليه العالَم من رُشدٍ وطهرٍ فالخير للناس أن يثوبوا لهذا المصحف مسترشدين بَدَلَ أن تُدْمِيَ أعقابَهم التَّجاربُ الفاشلة والمنهاج الباطلة وإن المسلمين لم يَهْوُا من عَلٍ ويسقطوا من عين الله إلا يوم قطعوا حبال وصالهم بهذا الكتاب وأحكامِه فاستهانوا بروابطه فتسلطت عليهم الأمم التي كانت بالأمس تتعلم منهم وتقفوا آثارهم. 

أيها الأحبة: إن القرآن يهدي إلى الرشد ويهدي للتي هي أقوم يوم يوقن المسلمون أن تعاليم القرآن لم تنزل لتكون حبراً على ورق أو أوهاماً وخيالاتٍ في أذهان المصلحين وعقولِهم بل لتكون حقائق تتحرك في دنيا الناس ليلاً ونهاراً؛ فلم ينزل قول الله : ﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ لنسمعها بصوت قارئٍ شجي الصوت أو يُرسِلَها واعظ من فوق منبره دون أن تأخذ مجراها في الحياة العامة قوانينَ ملزمةٍ واختصاصاتٍ واضحة.

إن جعل تعاليم القرآن مجرد شعارات تَرَكتِ المسلمَ يتكبَّدُ مرارةَ الحسرة والألم وما حال المسلمين اليوم عن الناظرين ببعيد ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ۝ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ۝ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه 125-126]. 

لم يعد المسلمون يتنبَّهون أنَّ مصحفهم يهدي إلى الرشد وإلى الطريق المستقيم عندما أضحى المصحف والمتصلون به على هامش الحياة ويحملهُ ذو العاهات والمتأكلون به. 

إن مصحفنا يهدي إلى الرشد يوم يحمله ويذود عنه دعاةٌ جمعوا بين عمق العلم والفهم بالدنيا والدين شُجعاناً في موطن الجرأة رِقاقاً في موطن التلطف. 

 

أيها الإخوة: كي تتجدد شمس المصحف ويعود هادياً للرشد كما كان لا بد أن يعكِف على معينه العارفون بأسرار تشريعه، العارفون بطبائع الخَلق وعِلل الجماعات أما السطحيون فهيهات أن تقوم على أيديهم أحكام أو يتمكنوا من صيانةٍ وإصلاحٍ فهو كتاب لا يصلُحُ لأنْ يخدمه عَبيدُ الشهوات من أصحاب العزم الفاتر إنما يُصطفَى له أولو الشرف الأطهار في سيرتهم ومعاملاتهم.

 

وأخيراً: هذا كتاب ربنا يخبرنا فيه أنه يهدي إلى الرشد وإلى التي هي أقوم فأين المشمرون والباحثون عن هداياته؟ وأين الواردون حياضَهُ لينهلوا من معينه ومعانيه؟ وأين المهتدون بتوجيهاته؟ اللهم اجعلنا منهم.

 

 اللهم اجعلنا ممن آمن بالقرآن فاهتدى به إلى الرشد وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.

اللهم انفعنا بالقرآن العظيم واجعله لنا إماماً ورحمة، اللهم ارزقنا حُبَّ القرآن وفضلَ القرآن ونورَ القرآن وسكينةَ القرآن وشفاءَ القرآن ورحمةَ القرآن آمين آمين.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.