سلسلة علمني المصحف | وحيٌ يوحى | المقالة الثالثة | الشيخ أنس الموسى

 

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنَّا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا.

وبعد:

فهذا هو اللقاء الثالث في سلسلة علمني المصحف وقد تحدثنا في اللقاء الماضي وأجبنا عن سؤال هام كيف يهدي المصحف للرشد وإلى التي هي أقوم؟ ولايزال الحديث يتردد ويتجدد حول القرآن بوسم علمني المصحف.

 

          أيها الأحبة: عبَّاد بن بشر وعمار بن ياسر من رجالات الإسلام القلائل كلفهما النبي بحراسة ثغر من ثغور المسلمين ليلاً وقد اتفقا على أن يحرس عبَّاد الشطر الأول من الليل والشطر وعمار الشطر الأخير وخلال نوبة عبَّاد بن بشر وبينما كان الليل هادئًا ساجيًا وادعًا وكان النجم والشجر والحجر تسبح بحمد ربها وتقدس له تاقت نفس عباد بن بشر إلى العبادة واشتاق قلبُه لحلاوة القرآن ولذيذ المناجاة به وكان أحلى ما يحلو له القران إذا رتَّله مصليًا فيجمع روحَ الصلاة ومتعتَها إلى حلاوة التلاوة وتأثيرها فتوجه إلى القبلة ودخل في الصلاة وطَفِق يرتل آيات كتاب الله عز وجل بصوتٍ شجيٍ عذبٍ نقي، وفيما هو سابحٌ في هذا النورٍ الإلهي غارقٌ في لألاء ضيائه إذ رآه رجلٌ من المشركين قائمًا يصلي فعرف هذا المشرك أن النبي داخلَ الشعب الذي يقوم على حراسته عبَّاد بن بشر وأخوه فوتر قوسه وتناول سهمًا من كنانته فرماه به حتى استقر في جسد عباد فانتزعه عباد من جسده ومضى في صلاته غارقًا في تلاوته، وكأنَّ السهم الذي اخترق جسده إنما هو مسُّ بعوضةٍ لسعته فأبعدها عن جسده فما كان من المشرك إلاَّ أن وَتَرَ قوسه مرةً أخرى ورماه بسهم آخر استقر في جسد عباد أيضًا فانتزعه عباد كما انتزع سابقه فرماه المشرك بثالث فانتزعه عباد كما انتزع سابقيه ثم أيقظ صاحبه عمار بن ياسر قائلاً: انهض فقد أثخنتي الجراح فلمَّا رآهما المشرك ولَّى هاربًا والتفت عمار بن ياسر الى عباد فرأى دمائه تنزف غزيرةً من جروحه الثلاثة فقال : سبحان الله هلا أشعرتني عند أول سهم رماك به؟!

فقال عباد: كنت في سورة أقرأها فلم أحبَّ أن أقطعها حتى أفرغ منها وايم الله لولا خوفي أن أُضيِّع ثغرًا أمرني رسول الله بحفظه لكان قَطْعُ نَفَسِي أحبَّ إليَّ من قَطْعِهَا.

          أيها الأحبة: نريد أن نتوقف عند حال عباد بن بشر هذا الذي اخترقت جسدَهُ ثلاثة سهام وهو قائم يصلي لنسأل أنفسنا ما السر الذي جعل عبادًا لا يشعر بآلام السهام تخترق جسده بل شعر وكأنها مسّ بعوضة؟

ما الذي جعل عبادًا يستلُّ السهام من جسده ثم يرميها فلم تثنه عن صلاته وعبادته وطاعته؟

بل أين كانت روحُ عباد؟ وأين كان قلبه؟ وكيف كان شعوره؟ وفي أي عالمٍ كان يعيش في هذه اللحظات؟ وما هو الشيء الذي كان يخشى أن يفقده لو قَطع صلاته؟ وإلى أي شيءٍ كان يرنو وأي فيحاءٍ كانت تُظلُّه؟

إن السر والإجابة عن هذه الأسئلة قد أجاب عنها عباد بن بشر نفسُه عندما سأله عمار بن ياسر مستغربًا – كما استغربنا نحن – هلا أيقظتني من أول سهم؟ لقد أجاب عباد عن كل الأسئلة

 فقال: كنت أقرأ القرآن ومَضَيتُ في سورة لا أريد قطعها.

إذن السر في السورة.. السر في القرآن.. السر في المصحف هو الذي جعله يغيب عن دنيا الناس ويعيش حالةً شعوريةً روحيةً تركتهُ غائبًا عن أحاسيسه وآلامه فقد كان غريق القرآن وأنوار القرآن.

 

وسؤال آخر لماذا فعل القرآن في عباد بن بشر ما صنع ونحن نتلو القرآن ولا يصنع بنا ما صنع به؟

          الجواب عن هذا أيها الأحبة: إن عباد بن بشر كان يقرأ القرآن باعتباره وحيًا من الله تعالى نزل على قلب نبينا محمد فذات القرآن وحيٌ من الله تعالى ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ [الأنبياء 45] أي بالقرآن و نصوصه وآياته وسوره.

          كان عباد بن بشر يقرأ الوحي باعتباره نورًا ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى 52] وهذا النور يشعر به ويراه بل ويعيش فيه، فمن طَرَقَ باب القرآن وحيا انبثق له النور.

 

          أيها الأحبة: حين يقرأ المؤمن القرآن وحيًا يشتعل القرآن بفتيل قلبه ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النور 35]

          إن زيت القرآن بَرَّاقٌ بنفسه قابلٌ للاشتعال ولكن لابد من قَدْحِ الحجر ليشتعل هذا الزيت فيفيض النور والحرارة على القلب فيمتلئ القلب بالأنوار ويغيبُ صاحبُه فيها وإذا بالأنوار تغشاه وعندها لن يُحسَّ بسهم ولا غيره ولو قطِّعَ جسده إرباً.

          إن القرآن لم يفعل بنا ما فَعل بعباد بن بشر؛ لأننا نقرأ القرآن باعتباره صُحفًا وأوراقًا لا باعتباره وحيًا ونورًا وبهذه النظرة فقد المصحف تأثيره على القلوب وضاع مفتاحه الذي كان لدى أصحاب رسول الله ، وعندما نضع المفتاح الصحيح في القفل الصحيح وندير المفتاح فسينفتح الباب وينبثق النور ونراه كما رآه عباد وغيره.

          خبروني بالله عليكم ما الذي جعل المصطفى يقوم الليل بآية واحدةٍ من كتاب الله يرددها حتى الصباح؟ كما روى ذلك أبو ذر الغفاري رضي الله عنه قال: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ لَيْلَةً فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ، يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ بِهَا: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118]، فَلَمَّا أَصْبَحَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا زِلْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحْتَ، تَرْكَعُ بِهَا وَتَسْجُدُ بِهَا قَالَ: “إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا، وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا» [1]

          لقد صلى المصطفى طوال الليل حتى بدا وقت صلاة الفجر وهو يقرأ ويردد بين يدي الله بآية واحدة فماذا نقول عن حال المصطفى مع هذه الآية كيف لم يَكَلَّ ولم يَمَلَّ من قراءتها كل هذا الوقت؟! لقد كان يقرأ الوحي الذي نزل عليه ويعيش غارقًا في بحر أنواره.

          هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع رجلاً يتهجد في الليل ويقرأُ في سورة الطور فلمَّا بلغ قولَ الله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ۞ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ [الطور 7-8] قال عمر: قسمٌ وربِّ الكعبة حقٌّ ثم رجع الى منزله فمرض شهرًا يعوده الناس ولا يدرون ما مرضه. [2]

إن عمر بن الخطاب لم يسمع حروفًا وأصواتًا فحسب بل سمع وحيًا يتلى وحيٌ جاء من عند الله تعالى نزل على قلب أشرف خلق الله نبينا محمدًا .

 

          أيها الإخوة: في الحديث الإلهي: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قال الله : حمدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله : أثنى علي عبدي، وإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قال: مجدني عبدي – وقال مرة فوض إلي عبدي – فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» [3]

 

          أيها الإخوة: هل حين نقرأ سورة الفاتحة نستشعر أنَّ ربَّ العالمين يكلِّمُنا ونحن نكلِّمُه؟ وأن الله يتحدث عنا ونحن نقرأ الفاتحة؟ .. إنه الوحي.

          وحج صفوان بن سليم وليس معه إلا سبعة دنانير، فاشترى بها بدنة، فقيل له في ذلك، فقال: إني سمعت الله يقول: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ [الحج: 36] [4]، ما الذي حرك قلب صفوان بن سليم ليشتري بدنة بسبعة دنانير ذهبية هديًا لله عز وجل؟ إن صفوانًا قرأ كلام الله الوحي. 

          رحم الله مالك بن دينار إذ يقول: “إن الصديقين إذا قُرئ عليهم القرآن طربت قلوبهم للآخرة ثم يبدأ بالتلاوة ويقول: اسمعوا إلى قول الصادق من فوق عرشه” [5]

هكذا كانوا يرون القرآن؛ يرونه وحيًا يكلمهم ويخاطبهم فيتأثرون بتلاوته وسماعه

لهذا ولمنزلة من يُؤتى القرآن عدَّ رسول الله من يُؤتاه من دواعي حسد صاحبه فقال: «لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» [6]

لقد كانت هذه النماذج تتأثر بالقرآن عندما قرأوه وحيًا من عند الله لا سطورًا وحروفًا وعندما أيقنوا أنه وحيٌ من عند الله تعالى استعدوا لتطبيق أحكامه قبل قراءته ففتحوا له صفحات قلوبهم قبل أن يفتحوا صفحات المصحف.         

 

          إن الصحابة الذين كانوا يشربون الخمر كما يشربون الماء فكان الخمر يجري في عروقهم مجرى الدم؛ ما إن نزل قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة 91] حتى امتثلوا مباشرة و أراقوا دنان الخمر حتى سالت منها طرق المدينة، فلم ينتظروا ليقولوا: لماذا وما العلة وما السبب؟ ألا يوجد تخفيف؟ لعل هناك فهمًا آخر للآية؟ لعل الحديثَ فيه ضعف لعلَّ ولعلَّ؟ بل قالوا انتهينا يا رب انتهينا يا رب. 

          كان الواحد من السلف الصالح إذا مرَّ بقول الله عز وجل: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم 58] يعاتب نفسه إذا لم يبك ويقول: هذا السجود فأين البكاء؟

 

          عندما نزلت آيات سورة الحجرات ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات 2] كانت هذه الآيات كفيلةً أن تُجلس خطيب الأنصار – ثابت بن قيس – في بيته وهو يبكي ظانًا أن الآية تقصده حيث كان جهوري الصوت بطبعه فخشي أن يكون حبط عمله لأنه لا يخلو أن يكون رفع صوته يومًا بحضرة النبي حتى جاءه من يواسيه ويخبره مَن عند رسول الله   أنه ليس من أهل هذه الآية.

 

          وعندما نزل قول الله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ [النور 31] امتثلت نساء الأنصار وشقَّقْنَ مروطهن واعتجرن بها وتغطين فصرن كالغربان في السواد متَّشحاتٍ بالحجاب لا يُرى منهن شيءٌ امتثالا لأمر الله. والأمثلة على هذا كثيرة.

 

وأخيرًا أيها الأحبة: صدق عثمان بن عفان إذ قال: “لو طهُرت القلوب ما شبعت من القرآن”.

 

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وبصائرنا، اللهم ذكِّرنا منه ما نسِّينا وعلمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]مسند أحمد (35/ 256) ح (21328) واللفظ له، سنن ابن ماجه: باب ما جاء في القراءة في صلاة الليل (1/ 429) ح (1350).

[2]حلية الأولياء (2/ 586) مصنف أبي بكر بن ابي شيبة (19/ 143).

[3]صحيح مسلم باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (1/ 296) ح (395).

[4]سير أعلام النبلاء للذهبي (5/ 366) (165).

[5]حلية الأولياء (2/ 358).

[6]صحيح البخاري: باب الاغتباط في الحكمة (1/ 25) ح (73).