سلسلة علمني المصحف | ناشئة الليل | المقالة السادسة | الشيخ أنس الموسى

 

 

          الحمد لله القائل: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ۞ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ۞ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ۞ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ۞ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ۞ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل 1-5] وصلى الله على سيدنا محمد القائل: «لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» [1]

          أيها الأحبة: لقد ورد ذكر الليل في القرآن اثنتين وتسعين مرة، ففي الليل وظائفُ كثيرة والنوم ليس سوى وظيفةٍ واحدة من هذه الوظائف، وكما أن الحياة لا تستقيم بليلٍ دائم، ولا تستقر بنهارٍ مستمر، فكذلك الحياة لا تصفو من أكدارها إلاَّ بالليل؛ فآيات القرآن إذا هبطت غيوم السماء صارت تتدفق بروحانيةٍ خاصة، وإن انبعاث صوت القارئ بالقرآن بين أمواج الليل الساكنة قصةٌ تنحني وتحنُّ لها النفوس والأرواح.

          يقول أبو سليمان الداراني: “أهلُ الليل في ليلهم ألذّ من أهل اللهو في لهوهم ووالله لولا الليل لما أحببنا البقاء في هذه الدنيا”.

الليلُ ليْ ولأحبابي أُحادثهم … قد اصطفيتهم كي يَسمعوا ويَعُوا

لهم قلوبٌ بأسراري بها مُلئت … على وِدادي وإرشادي لَهم طُبعوا

سَروا فما وَهنوا عجزًا ولا ضَعفُوا … وواصلوا حَبلَ تقريبي فما انقطعوا

          الليل أيها الأحبة لا يحلو إلا بالقرآنِ ولا يصفو إلا بالقرآن وأنوارِ القرآن وإخباتِ القرآن وأدعيةِ القرآن ومناجاةِ القرآن وقوارعِ القرآن وتسليةِ القرآن وبكاءِ وتململ أهل القرآن.

يَا حُسْــنَهُمْ وَاللَّيْلُ قَدْ جَنَّهُمُ     وَنُورُهُمْ يَفُوقُ نُورَ الأَنْجُمِ

تَرَنَّمُــوا بِالذِّكْرِ فِي لَيْلِــــهِمُ       فَعَيْشهُمْ قَدْ طَابَ بِالتَّرَنُّمِ

قُلُوبُهُمْ لِلذِّكْرِ قَدْ تَفَرَّغَـــــتْ       دُمُوعُــهُـمْ كَلُؤْلُؤٍ مُنْتَظِـــم 

          القرآن في الليل منهلٌ يَرِدُهُ أهلُ الإرادة وهم مختلفون فيما يَرِدُون ويريدون ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ [البقرة 60] فالمحبُّ يتنعَّم بمناجاة محبوبِه، والخائفُ يتضرَّع لطلب العفو ويبكي على ذنوبه، والراجي يُلحُّ بالسؤال في تحصيل مطلوبه، وأمَّا الغافلُ المسكين أحسنَ اللهُ عزاءَه في حرمانه وفواتِ نصيبه.

لو أنَّكَ أبصرتَ أهل الهوى … إذا غارت الأنجمُ الطُّلَّعُ

فهـــذا ينـــوحُ على ذنبـه … وهــــذا يصلي وذا يركعُ

          أيها الإخوة: ما عند المحبين ألذّ من أوقات الخَلوة بمناجاة محبوبهم فهو شفاء قلوبهم ونهاية مطلوبهم.

كلما أقبل الليل وخصوصًا ليلُ الشتاء الطويل يشعرُ أهل القرآن أن الليل خُلقَ للقرآن 

          يقول الإمام النووي: “وإنما رَجحت صلاة الليل وقراءتُه لكونها أجمع للقلب، وأبعد عن الشاغلات والمُلهيات، وأصون عن الرياء وغيره من المُحبِطات مع ما جاء به الشرع من إيجاد الخيرات بالليل”. [2]

          كان بعض الصالحين يقوم الليل فإذا كان السَّحر نادى بأعلى صوته: يا أيها الركبُ المعرِّسُون أكلُّ هذا الليلِ ترقدونْ ألاَ تقومون فترحلونْ؟ فإذا سَمع الناس صوتَه وثبوا من فُرُشهم فيُسمَع من هناك باكٍ ومن هنا داعٍ ومن هنا تالٍ ومن هنا متوضئ، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: وعند الصباح يَحمَدُ القومُ السُّرى.

عن أبي مليكة قال: سافرت مع ابن عباس من مكة إلى المدينة فكان يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفاً حرفاً ثم يبكي حتى تَسمع له نَشِيجًا.

حقاً: ما يُؤهِّلُ الملوكُ للخلوةِ بهم إلاَّ مَن أَخلصَ في وِدِّهم ومعاملتِهم.

 وسُئل الحسن البصري: لِمَ كان المتهجدُّون أحسنَ الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خَلَوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نورهِ.

ويُروى عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: إن مَن كان قبلَكُم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها بالنهار.

وهكذا كانت الصديقة بنت الصديق عائشة أم المؤمنين الصوَّامةُ القوَّامة؛ فقد روى عنها ابن أختها أنها قامت تصلي في آية واحدة وهي قوله تعالى: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ [الطور 27] تُردَّدُها وتَدَبَّرُها وتبكي. كم كررتها يا ترى؟ وبماذا كانت تشعر؟ ومن كانت تخاطِب؟ وماذا كانت تستحضِر؟ ومن كانت تناجي؟ الحقيقة إنَّ لسانها كان يردِّد وقلبُها كان يتكلم.

          حقاً يا إخوتاه: في سكون الكون في الليل وهَدأة الخلائق أُنسٌ بترتيل كتابه لا يَعدلهُ أُنس؛ فيتلوه القائم غضًّا طرياً يستقبل إيحاءاته في الليل الساجي وكأنه يخاطَبُ به وحدَه ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [السجدة 16].

 يا قوَّام الليل اشفعوا في بالنوَّام، يا أحياءَ القلوب ترحَّمُوا على الأموات.

 ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة 17] نعم إخوتي: هذه الآية تشير بحفاوةٍ ربانيةٍ بهذه النفوس؛ وعليه فلا تَسَل عمَّا أُخفي لهم من المذخور لهم عندَهُ فلا يعلمه إلاَّ هو ويكشفه سبحانه لأصحابها يوم القيامة.

 إنه وعد رباني كما وضَّح ذلك رسول الله ﷺ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» [3]

وقال رسول الله ﷺ: «إن في الجنة غرفًا ترى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» [4]

يا رب يا رب.. كم يفيض جودُك على عبادك؟!

          يقول زيد الرقاشي: ما أعلم شيئاً أقرَّ لعيون العابدين في الدنيا من التهجد في ظُلمة الليل وما أعلم شيئًا من نعيم الجنة وسرورِها ألذَّ عند العابدين ولا أقرَّ لعيونهم من النظر إلى ذي الكبرياء العظيم إذا رُفعت تلك الحجب وتَجلى لهم الكريم.

إنه سرُّ الليل وأنوارُه الذي كان السري السقطي يقول عنه: رأيتُ الفوائد تَرِدُ في ظلام الليل.

          أيها الأحبة: مما لا شك فيه أن للقرآن سطوةً تأخذ بالألباب وطاقةً تأثيرية تَخْلُبُ لُبَّ المستمِعِ لكن هناك أثرٌ آخر وقوةٌ أخرى تزيد من وقع القرآن وسطوته على القلوب إنه وقع الليل.. إنه سكون الليل.. الليلُ الذي يضيفُ قَدْرًا إضافيًا من جلال القرآن وهيبته على القلوب يأخذ بأنحائها يتململ قارئ القرآن بالليل باكياً، وتراه يقبض على لحيته تأثراً بالقرآن كلما دخل هزيع الليل الأخير.

          هذا المصطفى يحدثنا عن أثر القرآن في الليل فيقول: «إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الأَشْعَرِيِّينَ بِالقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ، وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالقُرْآنِ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ» [5]. عجيب ولله.. المصطفى لم ير منازلهم بالنهار لكنه استطاع أن يحدد موقعها في هزيع الليل لما بدأ يتسرب من خلاله حنين المرتلين فيعرف المصطفى أنها منازل الأشعريين.

 

          المصطفى يا إخوتي لم يكن يريد أن يخبرنا عن مجرد معرفته بمنازل الأشعريين وحسب، بل نكاد نتحسس من كلامه تأثره بروعة صوت الأشعريين يتهادى في جنح الليل يرسل رسائله لأصحاب القلوب الحية يخبرهم أن ثَمَّةَ نوراً في هذا المكان لدرجة أن السامع يستنصت هذا الصوت بل هذا النور ليحدِّدَ مصدره وإن كان مُغمَضَ العين ترشده تلك الأنوار التي تسوقُ قلبَه لمصدره وتهزُّه هزاً كلما اقترب. «أعرف منازل الأشعريين بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار»  

إن حديث المصطفى عن هؤلاء الأشعريين وحلاوةَ تلاوتهم للقرآن في هدأة الليل ليقذف في قلوبنا حبَّهم والبحثَ عن أخبار ليلِهم وكيف كانوا يقضونه مع القرآن.

مما لا يخفى أيها الأحبة أنّ المصطفى كان يسمع القرآن في النهار ولكنَّ الذي جذبه لقراءة الأشعريين وصار يحدِّدُ منازلهم لمَّا سمع منهم القرآن في الليل.

 إذاً هي أسرار الليل وأثر القرآن فيه ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل 6]

لم يكتف المصطفى بتحديد منازل الأشعريين بسماعه ترتيلَهم بالليل بل قال لأبي موسى الأشعري مرة: «لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود» [6] لقد أخذ المصطفى ينصت لقراءة أبي موسى مهتماً بها لماذا؟

إنها أسرار روحانية القرآن حين استحوذ على سكون الليل فتنزِلُ السكينة ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾ [الأنعام 96] ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران 113]

 

يا رب هذا الليل وهذه بعضُ نفحاته وبركاته، فإلى متى سيبقى ليلُنا يتصًّرمُ في سهراتٍ ترفيهية أو تصفُّحِ تُرَّهات فكرية لا تُسمِنُ ولا تغني من جوع.

ها هو العمر أيها الأحبة والناس من حولنا لا يمضي أسبوع إلاَّ ويقال: أحسن الله عزاءكم في فلان أو فلانة.

يا رب هل ستمضي الحياة وينقضي الأجل ونحن لم نتذوق بعد حلاوة كلامك؟

يا رب اجعلنا من أهل القرآن واجعلنا من أهل الليل الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون.

اللهم ذوِّقنا القرآن وافتح مغاليق قلوبنا لفهمه رسائلَ تَفِدُ منكَ إلينا.

اللهم ائذن لقلوبنا أن تنتفع بما صرَّفت فيه من الآيات وبما ضَربتَ فيه من المَثُلات.

اللهم اجعله لنا شافعاً يوم اللقاء وسلاحاً يوم الارتقاء وحجيجاً يوم القضاء يوم يجزى كلُّ ساعٍ بما سَعى.

اللهم اجعله لنا رِيًّا يوم الظمأ وفوزاً يوم الجزاء.

اللهم ارزقنا منازل الشهداء وعَيشَ السعداء ومرافقة الأنبياء آمين آمين

 وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] صحيح البخاري: باب (1/ 25) ح (73). 

[2] التبيان في آداب حملة القرآن ص64.

[3] صحيح البخاري: باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (4/ 118) ح (3244).

[4] سنن الترمذي: باب ما جاء في قول المعروف (3/ 422) ح (1984).

[5] صحيح البخاري: باب غزوة خيبر (5/ 138) ح (4232).

[6] صحيح مسلم: باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن (1/ 546) ح (793).