سلسلة علمني المصحف | لِيَدَّبَرُوا آياتِه | المقالة الثامنة | الشيخ أنس الموسى

بسم الله الرحمن الرحيم

لِيَدَّبَرُوا آياتِه

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا وبعد:

من المعلوم أن المصحف لا تنقضي عجائبه ولا يَخْلَقُ مِنْ كَثْرَةِ الردّ، وكلما ازداد العبد تأملًا فيه ازداد علمًا وبصيرة.

          أيها الإخوة: كثير من الناس يُحسن تلاوة هذا الكتاب العزيز ويُتقن أداءه، بل كثيرٌ من الناس يقرؤه بقراءاته المختلفة مع ألحانٍ شجيةٍ تزيد الأداء روعة وبهاءً.. لكن قِلَّةً من الناس من يتدبر آياته؛ هذا التدبر الذي قال الله فيه: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص 29] فالقرآن يُنبوعٌ يتنافس الناس على الارتشاف منه بقدْر منازلهم؛ فهو موردٌ يَرِدُهُ الخَلق وكل ينال منه على قدْر ما قُسِمَ له، بل إن تدبُّر القرآن رزقٌ يقسمه الله بين عباده كبقية الأرزاق ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف 32] 

فإذا كان العبد مأمورًا بالضرب في الأرض لتحصيل المعاش والرزق؛ فمن باب أولى أن يبذُلَ وُسعه لتفهُّم مراد الله في آياته.

يقول ابن مسعود عن تدبر القرآن: “لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشِّعر ولا تنثروه نَثْرَ الدَّقَل قفوا عند عجائبه وحركوا بها القلوب ولا يَكُن همُّ أحدِكم آخرَ السورة”.

وقد أتى رجل إلى ابن مسعود فقال له: اعهد إلي، فقال: إذا سمعت الله تعالى يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ فارْعِها سمعك فإنه خيرٌ يأمُرُ به أو شرٌّ ينهى عنه.

          المصحف يا إخوتي كتابٌ تَغيرِيٌ لا يلبث من يقرأه أن تسري فيه روحه؛ فتنتشر في أركانه؛ فيتسربل واقعه بأنواره ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا﴾ [الرعد 31]

فكم من قلبٍ مهمومٍ محزونٍ أسعدهُ الله بالقرآن؟ وكم من قلبٍ مسودٍّ منكوس أحياه الله بالقرآن؟ ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى 52]

          نحتاج يا إخوتي في تعاملنا مع المصحف أن نراه روحًا يحتاج إليها القلب؛ لتسمو بالنفس فتسري في الأوصال فيمشي صاحبه بين الناس فيهتفوا ويقولوا: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الانعام 122]

بل لقد اختار الله لوحيه المنزل أن يطلق عليه نفس الاسم الذي أطلقه على سرِّ الحياة فقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى 52] وكأن القلوب من دون القرآن ميتة، والنفوس من دونه متحجِّرة يابسة، والأفكار من دون المصحف باردةٌ ساكنة.

 يمكننا القول باختصار: مؤمنٌ من دون المصحف شبحٌ لا حِراك فيه، مؤمنٌ من دون القرآن جثةٌ بلا روح.

          أيها الأحبة: لقد كان من منهج النبي في تعليم أصحابه القرآن إيجاد التلازم بين العلم والعمل فلا عِلمَ جديدٍ إلاَّ بعد فهم سابق والعمل به؛ لهذا لم يأذن النبي لعمرو بن العاص أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث ليال فقال: «لَا يَفْقَهُهُ مَنْ يَقْرَؤُهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» [1]

يقول الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى: يخيل إليَّ أن بعض الكتاتيب أساءت للمصحف من حيث تريد الإحسان؛ من ناحية أنها أخرجت أشرطةً مسجِّلةً ولم تُخرج نماذج حيَّة.

          إن تدبر القرآن يا إخوتي يعني: تحديقُ ناظرِ القلب إلى معانيه وجمعُ الفكر على تعقُّله؛ فهو إذاً التفكير الشامل الواصل على أغراض دلالات ألفاظه ومراميه البعيدة.

وهذا الحسن البصري يضع النقاط على الحروف في تحديد معنى التدبر فيقول: “وَاللَّهِ مَا تَدَبُّره بِحِفْظِ حُرُوفِهِ وَإِضَاعَةِ حُدُودِهِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَا يُرَى لَهُ القرآنُ فِي خُلُقٍ وَلَا عَمَلٍ”. [2]

يقول الإمام الشوكاني في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة 78] قال: الأماني: “أَيْ لَا عِلْمَ لَهُمْ إِلَّا مُجَرَّدُ التِّلَاوَةِ مِنْ دُونِ تَفَهُّمٍ وَتَدَبُّرٍ” [3]

          أيها الأحبة: لقد عد المصطفى تدبر القرآن من أسباب تنزل السكينة عندما قال: “وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ” [4]

كيف لا تتنزَّلُ السكينة والله تعالى يقول: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء 82]
كيف لا تتنزَّلُ السكينة والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء 9]

لقد كان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: “كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ، والعملَ بهنَّ” [5]

وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول: “إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ قَدْ قَرَأَهُ عَبِيدٌ وَصِبْيَانٌ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِتَأْوِيلِهِ، وَلَمْ يَتَأَوَّلُوا الْأَمْرَ مِنْ قِبَلِ أَوَّلِهِ، وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29] ، وَمَا تَدَبَّرُوا آيَاتِهِ اتِّبَاعَهُ، وَاللَّهُ بِعِلْمِهِ، أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِحِفْظِ حُرُوفِهِ وَإِضَاعَةِ حُدُودِهِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: لَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فَمَا أَسْقَطْتُ مِنْهُ حَرْفًا، وَقَدْ وَاللَّهِ أَسْقَطَهُ كُلَّهُ، مَا يُرَى لَهُ الْقُرْآنُ فِي حَلْقٍ، وَلَا عَمَلٍ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: إِنِّي لَأَقْرَأُ السُّورَةَ فِي نَفَسٍ، وَاللَّهِ مَا هَؤُلَاءِ بِالْقُرَّاءِ، وَلَا الْعُلَمَاءِ، وَلَا الْحُكَمَاءِ، وَلَا الْوَرَعَةِ، مَتَى كَانَتِ الْقُرَّاءُ مِثْلَ هَذَا؟ لَا كَثَّرَ اللَّهُ فِي النَّاسِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ” [6]

وقال أيضًا: “نزل هذا الْقُرْآنُ لِيُتَدَبَّرَ وَيُعْمَلَ بِهِ؛ فَاتَّخِذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا” [7]

وكان سيدنا عليٌ رضي الله تعالى عنه يقول: “ذلك القرآن فاستنطقوه”.

وكان ابن مسعود يقول: “ثوِّرُوا القرآن”

          أيها الأحبة: لقد أتى على الناس حينٌ من الدهر انفصلت فيه مناهجُ التدبر عن التلاوة والترتيل؛ لهذا نحن بحاجةٍ لإعادة ضبط مفهوم الترتيل وإحداث التوازن بين قول الله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل 4]، وبين قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص 29].

          الحق أيها الإخوة نحن بحاجة لخَتَمَاتٍ مَعرِفِيَّةٍ للقرآن ولا يَتمُّ ذلك إلا بممارسة مِرانه الفكري والروحي والعقلي.

إن هذه الختمات المعرفية التدبرية التي نحتاجها للمصحف؛ نتفادى فيها ذلك السياق الصوتي الذي اختزلَ الترتيلَ – ويا للأسف – في النطق الحسن وإدارةِ الأنغام دون تَلَمُّسِ المعاني؛ فنخرج عندها من ظاهرة التسابق لإنجاز كمِّ معين من الحركات اللسانية العَجِلَةِ.

نحتاج يا أحبتي لردمِ المسافة الفاصلة بين الإنسان والوحي، وإزالةِ كلِّ العوائق التي تحول دون تدبره.

إن تدبر القرآن يا إخوتي يبدأ من إرادة الشخص داخليًا مع توطين القلب واختيار الوقت والمكان المناسبين مع اللَّجوء إلى الله والتوجه إليه أن يرزق الله القارئَ العيشَ في رحاب المصحف، وأن يصير القرآن ربيعَ القلب ونورَ الصدر وذهابَ الحزن.

          التدبر أيها الإخوة: هو النظر والتوصل إلى ما تحمله آيات المصحف من أهداف ومقاصد، ولأنَّ الناسَ متخصصون بطبيعة خِلقتهم وفطرتهم؛ فحين يتدبرون القرآن ينصرف كلٌّ منهم إلى يُحسنه بمقتضى توجيه القرآن.

 إن إحسانَ التدبر يخرج لنا فردًا يقظًا، وإن خشوعَ القلب وتأثرَهُ واستجابتَه وخضوعَه لأوامر هذا المصحف وجعلِه منهجَ حياة دليلٌ على تدبره؛ فيقرأ العبد في المصحف فيستشعر الخوف من عذاب الله تعالى وغضبه؛ فيسعى لمرضاته.

إن التدبر نوع من العلاقة بين الإنسان والوحي فهل وجدنا مثل تلك العلاقة ونحن نمسك المصحف!

          يقول أحد المتدبرين: إني لأفتح السورةَ فيوقفني بعضُ ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر.

إن هذه العلاقة هي التي جعلت تميمًا الداري يقوم الليل بقول الله عز وجل: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية 21]

وهذه العلاقة هي التي جعلت الحسن البصري رحمه الله يردد كثيرًا قول الله تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم 34] فسئل في ذلك فقال: إنَّ فيها معتَبَرًأ ما نرفع طرفًا ولا نردُّه إلاَّ وقعَ على نعمة، وما لا نعلمه من نِعمِ الله أكثر.

          وأخيرًا أيها الأحبة: ليست الدعوةُ لتدبر القرآن تركُ حفظه وتركُ تلاوته وتجويده – ففي ذلك أجر كبير- لكنَّ المطلوب إيجاد التوازن بينهما ومن ثَمَّ العمل به؛ كما كان حال سلفنا الصالح رضوان الله عليهم.

          اللهم اجعل القرآن العظيم ربيعَ قلوبنا ونورَ صدور وذهابَ أحزاننا، اللهمَّ ذكِّرنا منه ما نُسِّينا وعلِّمنا منه ما جَهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطرافَ النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا آمين آمين.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مسند أحمد (11/ 104) ح (6546).

[2] تفسير ابن كثير (7/ 64) وقال: رواه ابن أبي حاتم.

[3] تفسير فتح القدير للشوكاني (1/ 123).

[4] صحيح مسلم: باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (4/ 2074) ح (2699).

[5] تفسير الطبري: باب ذكر الأخبار التي رويت في الحض على العلم (1/ 80).

[6] الزهد والرقائق لابن المبارك: باب ما جاء في ذم التنعم بالدنيا (1/ 274) ح (793).  

[7] مدارج السالكين: فصل فوائد تدبر القرآن وتأمل معانيه (1/ 450)