سلسلة علمني المصحف | لماذا القرآن | المقالة الأولى | الشيخ أنس الموسى

 

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام مع المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى أّله وصحبه أجمعين. 

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا. 

وبعد:

فهذا هو اللقاء الأول في سلسلة علمني المصحف نتحدث فيه عن دروس نتعلمها من القران الكريم؛ فالقرآن مدرسةٌ بل أعظم مدرسة يتعلم فيها المسلم لغةً لا تشبهها لغةٌ أخرى تؤثر في ظاهره وباطنه، بل هو شعور يمسُّ قلبَ الإنسان وروحه قبل ظاهره.

 

    • والسؤال: لماذا الحديث عن القرآن؟

أيها الأحبة: نتحدث عن القرآن لأن القرآن شفاءٌ ونورٌ وهدىً ورحمة، وهو انشراح صدرٍ ونيلُ أجرٍ في زمن كثرت فيه الهموم والآلام والأحزان. القرآن رئةٌ ثالثةٌ نتنفس بها حين تَخْنِقُنا هموم الحياة، فهو يشفي وهو ينفع ويشفع ويرفع. 

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [فصلت 44]

 القرآن شفاء لما في القلوب من مرض الشك والارتياب، وإرشادٌ لطريق الحق، وهو رحمةٌ للمؤمنين لأنهم المنتفعون بآياته، وهو شفاءٌ للقلوب من الجهل والكفر والشك، كما أنه شفاءٌ للأبدان إذا رُقيت به، وهو رحمةٌ للمؤمنين العاملين ولا يزيد هذا القرآن الكافرين إلا هلاكًا؛ لأن سماعه لا يفيدهم فيزيدون تكذيبًا له وإعراضًا عنه.

 

أيها الأحبة: لا شيء أحق أن يَفرح العبد به من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظةَ وشفاءَ الصدور أكثرَ من فرحِه بآيات كتاب الله الذي يتضمن ثَلْجَ الصدور باليقين وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه وحياة الروح به ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس 58].

الحقيقة أيها الإخوة: لن نجد صاحبًا يقوِّمُ عوجنا ويهذِّبُ أخلاقنا ويفصِحُ ألسنتنا ويُسْعِدُ حياتنا ويثبت قلوبنا مثلُ القرآن؛ وعلى الراغب بالسعادة نقول له: بقدر رغبتك بالسعادة اقرأ القرآن.

 

كيف وقد ثبت أن أشهرَ الأمراض النفسية المنتشرة بين الناس كالقلق والتوتر والاكتئاب والإحباط والخوف من المستقبل والوسواس والإدمان والانطوائية وما شابهها من الأمراض عالجها القرآن؛ لأنه شفاء يُذْهِبُ ما في الأبدان والقلوب من أمراض.

إن كثيرًا من الأسئلة المحيِّرة التي تراود عقل الانسان والتي جعلها الله بحكمته سببًا للتوصُّلِ إليه والتعرُّفِ عليه؛ مثل: إن أصابني مكروهٌ من يحميني؟ إن افتقرت من يرزقني ويغنيني؟ ماذا بعد الموت؟ .. وغيرها كثير.

إن القرآن يجيب عن هذه الأسئلة بكل وضوح ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء 80] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك 30] (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة] ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران 185]

حقًا كلما بَعثرتنا الحياةُ بهمومِها ومشاكلها رتَّبَنَا القرآن.

 

أيها الأحبة: لن نجد من يُضمِّدُ جراحنا ويَجمع شَتاتنا ويُنِيرُ بصائرنا ويثبِّتُ قلوبنا مثل القرآن؛ فرفيق القرآن يَرقى ولا يَشقى؛ فنعيمه في صدره ونوره في وجهه فلا يَضِلُّ عقله ولا يَحزن قلبه.

من تلاه رَقَّ قلبه ومن حفظهُ رُفِعَ قَدره ومن عَمِل به صَلُح حاله.

ما تلاه محزون إلا انشرح صدرُه، وما تعلق به أحد إلاَّ كُفِيَ همُّه وفُرِّج كربه 

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد 28]

فالقرآن حين يقرر المسلم أن يقرأه يصدقٍ وتجرُّد فإنه لا يمكن أن يخرج منه بمثل ما دَخل عليه.

 

خبروني بربكم ماذا يحدث لقلب المؤمن وهو يقرأ قول الله : (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات 58]

خبروني بالله عليكم ماذا يحدث لقلب المؤمن وهو يقرأ قول الله : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء 42]. 

بل ماذا يحدث لكيان المؤمن وهو يقرأ قول الله : ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق 3]

 

هذا القرآن يَقلِبُ شخصيتنا ومعاييرنا، ويقلب موازيننا وحَميَّتنا وغَيْرَتَنا، ويقلب صيغة علاقتنا بالعلوم والعالَم والتاريخ والمعارف وخصوصًا إذا وَضع قارئ القرآن بين عينيه أنَّ هذا القرآن ليس مجرد معلومات يتعامل

معها ببرود فكري بل هو رسالة تحمل قضيته.

إن قراءةً واحدةَ صادقةً لكتاب الله كفيلةٌ بأن تصنع في العقل مالا تصنعه كثيرٌ من المطوَّلات الفكرية بِلُغَتِها الباذخة وخيلائِها الاصطلاحي.

قراءةٌ واحدةٌ صادقةٌ فاقهةٌ لكتاب الله كفيلة بقلب كل حِيل الخطاب الفكري المعاصر رأسًا على عقب.

 

فإلى الدعاة والراغبين بالهداية.. أعطوني ختمةً واحدةً لكتاب الله بتجرُّدٍ وتدبُّر وإنصافٍ – مهما كان القارئ – وخذوا مسلمًا واعيًا مؤمنًا ذكيا فاقهًا؛ فالقرآن له سطوةٌ خفيةٌ مذهلة في صناعة الإيمان والإخبات والخضوع في النفس ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج 54] 

﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾ [المائدة 83-84]

 

حقاً القرآن دواءٌ وشفاءٌ، وكل الأدوية مُرَّةٌ إلاَّ القرآن. 

إنه القرآن الذي يُرْفَعُ به أقوام ويُوضعُ به آخرون. 

إنه القرآن الذي يقال لقارئه:  «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْقَ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا»

 من أجل هذا نتحدث عن القرآن؛ لأن فيه صلاح الدنيا وسعادة الآخرة، وهو هداية النفوس الظامئة للهداية؛ فإليه يلجأُ العابدون، وإليه يلجأ طلاب الحكمة والرشاد.

إنه القرآن حامي سياج المجتمعات من التردِّي والغرق في أتُّون الهلاك والمعاصي والضَّياع. 

إنه القرآن الذي قال الله فيه: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء 88]

إنه القرآن الذي حدثنا عنه رسول الله  فقال: «إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ، كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ».

إنه القرآن حبلُ الله المتين وعصمةٌ لِمَن اعتصم به، وغِنىً لمن استغنى به، وشفاءٌ لما في الصدور.

إنه القرآن من قال به صَدق، ومن عمل به أُجر، ومن حَكَم به عدل، ومن دعا إليه هدي الى صراط مستقيم.

إنه القرآن مدرسة هِمَّةٍ نحو القمة.

إنه القرآن الذي يُقال لأهله:  «خيركم من تعلَّمَ القرآن وعَلَّمَه»

لا شيء يحفظ الروح ويغذِّي العقل ويحفظ الجسم ويضمن السعادة مثلُ القرآن.

إنه القرآن معيار النجاح والإنجاز.

 فإلى طلاب النجاح وإلى الراغبين بالإنجاز لا تَسْتَعْظِم إنجازات يومٍ خلا من القرآن ولا تستصغر أعمال يوم كان القرآنُ فيها حاضرًا.

وأخيرًا: هل عرفتم لماذا نتحدث عن القرآن؟

 

اللهم اجعل القرآن طمأنينة نفوسنا وسكنًا لهمومنا وأحزاننا، وهدايةً لحَيرَتِنا واجعل صدورنا مضيئةً بالقرآن.

اللهم عَمِّر بالقرآن قلوبنا، اللهم نوِّر بالقرآن قلوبنا، اللهم نوِّر بالقرآن بيوتنا اللهم نور بالقرآن قبورنا آمين آمين.

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وجِلاء همومنا وأحزاننا اللهم ذكرنا منه ما نُسِّينا وعلمنا منه ما جَهِلْنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا يا رب العالمين.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

                    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  مسند أحمد (11/ 403) ح (6799).

[2]  مسند أحمد (3/ 417) ح (1947).

[3] صحيح البخاري: باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (6/ 192) ح (5027).