سلسلة علمني المصحف | في قَصَصهم عِبرة | المقالة الحادية عشرة | الشيخ أنس الموسى

 

          الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا، وبعد:

          ذكرنا سابقًا أن ما بين دفتي المصحف هو مراد الله تعالى من خلقه، لكن هذا المصحف لا يستطيع أي إنسان أن يتجاوب مع أهدافه ومراميه؛ فهو كتاب يسوق الأمم إلى الحق وتختلف بسبب ذلك خطاباته لاختلاف الناس فمرة يروي مشاهدَ أفراح الجنة ونعيمَها، ومرة عذاب النار وآلامَها، وأحيانًا كثيرة يسوق مواعظه في صورة قصص يسرُد فيها أنباء الأولين لأنَّ فيها معتبرًا وغايته من سردها خلق إنسانٍ متوازن متحقق بجملة وافرة من التربية والسمو في سيرته وتعاملاته.

          وأحيانًا نرى المصحف يرسل توجيهاته وتشريعاته لضبط العقود بشتى أنواعها حتى لا يضيع حق ولا تَفْلُتَ مصلحة، وأحيانًا وأحيانًا؛ لهذا نقول لا يصلح لدراسة المصحف واستخراجِ كنوزه كل أحد بل يحتاج لفهمه عارفون بأسرار تشريعه فهو تارة يخاطب عقل الفيلسوف وتارة عاطفة الأديب وأحيانًا يرسل أحكامه للمشرعين من القضاة والحكام، وأحيانًا يخاطب الأطباء وعلماء الأجنَّة، وأحيانًا المشتغلين بالفلك وعلوم الفضاء، بصورةٍ يحقق الاستفادةَ منه كلُّ من يقرأه مهما اختلف فنه ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ ​مَّا ​فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يُحۡشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38].

          ولأن المصحف خاتم الكتب السماوية؛ فهو بذلك كتاب الدين كلِّه، وهو عمدة الملة وروح الوجود الإسلامي، وهو كتاب كل الأزمان وكل شيء فيه لحكمة، حتى قَصصه التي يقصُّها علينا كان لإيرادها حِكمًا ودروسًا ما تزال الأجيال إلى الآن تنهل منها وتتربى عليها أفرادًا ومجتمعاتٍ قادةً ودعاة، آباءً وأمهات، علماءَ وطلابَ علم؛ فقد كانت بحق أحسن القصص ﴿نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ ​أَحۡسَنَ ​ٱلۡقَصَصِ بِمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ﴾ [يوسف: 3].

          القصص القرآني أيها الأحبة هو حكاية الأنباء والأخبار، وقد قصَّ علينا المصحف قَصصَ كثير من الأنبياء عليهم السلام من لدن آدم إلى نبينا محمد ، ونبأ أقوامهم والمعجزاتِ التي وقعت معهم، كما قصَّ علينا قصص غير الأنبياء كقصة هاروت وماروت وأصحابِ السبت والأخدود وأصحابِ الفيل وأصحابِ الجنة وأهلِ الكهف وغيرها من القصص.

          أيها الإخوة: مما لا شك فيه أن القصة المحكمة الدقيقة تطرق المسامع فتتلقاها بشغف، وتنفذ للنفس البشرية بكل يُسرٍ وسهولة، وتسترسل مع سياقها المشاعر فلا تَملُّ ولا تَكلُّ، كما ويرتاد العقل عناصرها فيجني من جناها الأزاهير.

          أيها الأحبة: كثيرًا ما تكون الدروس الإملائية التلقينية مورِثةً للملل؛ فلا تستوعب عناصرَها عقولُ الناشئة؛ لذا كان الأسلوب القصصي أجدى نفعًا وأكثر فائدة.

          مهمة: وعلينا ونحن نتحدث عن قصص القرآن أن نفرق بين الأساطير والقصص الخيالية المصنوعة وبين القصص القرآني الواقعي.

          إن القصة أيها الإخوة تعتبر مرآةً للإنسان تعرض عليه تجارب الأمم السابقة وأولو الألباب من ذوي البصائر باستطاعتهم أن يشاهدوا هذه العبر في هذه المرآة ويستفيدوا منها.

ففي قصص القرآن عبرة كما أخبر القرآن بهذا ﴿لَقَدۡ كَانَ فِي ​قَصَصِهِمۡ ​عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ مَا كَانَ حَدِيثٗا يُفۡتَرَىٰ﴾ [يوسف: 11]. 

فهو رسالة للكفار والمشركين، والعصاةِ والظلمة والمتكبرين؛ ليطلعوا ويروا ما حصَل بأمثالهم من الأمم السابقة لعلهم يتفكرون ﴿​فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 176].

          وفي قصص القرآن رسائل للدعاة إلى الله عز وجل ممن تعرًّض للبلاء أثناء الدعوة إلى الله عز وجل أن ما يصيبهم من أذى ولأواء فقد أصاب مَن قبلَهم لكنه في نهاية المطاف سيتوج بالنصر كما حصل بالأقوام السابقة رَغم قلة العدد وتكالب العدو؛ فعلى اللاحقين من المؤمنين ألاَّ يهنوا ولا يحزنوا لأنَّ العاقبة أبداً للمتقين ﴿قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱسۡتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصۡبِرُوٓاْۖ إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ ​وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128].

          فمن قصص القرآن التي تبعث في نفوس أهل الإيمان الأمل وتملأ قلوبهم ثقة وطمأنينة وراحة ويقيناً؛ حتى غَدَت قاعدةً لا تنخرم تلك القصص المزيلة بقول الله تعالى: ﴿​وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ﴾.
وقد جاء هذا الوعد الإلهي بأكثر صورة في أكثر من مناسبة؛ فقد جاء على لسان موسى عليه السلام وهو يبشِّرُ قومه الذين آمنوا به بحُسن العاقبة في الدنيا قبل الآخرة، وأنَّ التمكين في الأرض سيكون من حظهم إن هم لازموا التقوى ﴿ٱسۡتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصۡبِرُوٓاْۖ﴾ يا مَن هدَّدَكُم فرعون بقتل أبناءكم.. استعينوا بالله على فرعون وقومِه فيما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم.   

كما وجاء هذا الوعد بلفظ مقارب في خطاب الله لنبيه لما أخبره أن يأمر أهله بالصلاة فقال له: ﴿وَأۡمُرۡ ​أَهۡلَكَ ​بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسۡـَٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ﴾ [طه: 132].

كما وجاء هذا الوعد الإلهي في ختام سورة القصص عندما قال الله: ﴿تِلۡكَ ​ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 83].
وكما أخبرنا ربُّنا عن هذا الوعد أخبرنا أن الموعود يكون للمؤمنين في الآخرة فقال: ﴿​وَٱلۡأٓخِرَةُ ​عِندَ ​رَبِّكَ لِلۡمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 35].

          كما وأن في قصص القرآن بيانٌ لسنن الله في خلقه من الأمم والجماعات والأفراد وهي سنن جرت على الماضين ولا يوجد ما يمنع أن تجري على اللاحقين إن هم ساروا سيرَهم فيعتبر المؤمنون بهذا؛ كالخسف الذي أخبرنا ربنا عنه في قصة قارون الذي أوتي من الكنوز ما لم يؤتاه أحدٌ قبلَه، حتى إن مفاتيح صناديق كنوزه لتنوء من حمله العصبةُ أولي القوة فقال تعالى: ﴿إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ ​لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ﴾ [القصص: 76].

فماذا كانت النتيجة لمَّا أعرض عن منهج ربه ﴿فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ﴾ [القصص: 81].

          وقال حينها المتَّعظون بما حلَّ به وهم الذين كانوا بالأمس يتمنون مكانه وما فيه من نعيم ﴿وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ يَقُولُونَ وَيۡكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡعِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُۖ لَوۡلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَيۡكَأَنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾ [القصص: 82]،​ فالطاغية مهما بلغ ماله وجنده وتجبره مآله الهزيمة وأن قوة الإيمان تغلب كل قوة كفرية على وجه الأرض وأن المال الذي يؤدي بصاحبه للهلاك هو مال وبال لا فائدة منه.

          أيها الأحبة ليس الغرض من قصص القرآن مجردَ السرد التاريخي وإنما تكمُن القصة في مواضع العبرة والعظة منها ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120].      

فعلى القادة والأمراء قراءة آيات القرآن والتدبرُ فيها ففي قصصه صورةٌ لكيفية إدارة الأنبياء لشؤون الناس إضافة لمهمة النبوة.

          وفي قصة سليمان عليه السلام الذي كان ملكاً نبياً أكبرُ عبرة حيث يبدأ المشهد الأول فيها في تصوير العرض العسكري العام لجنود سليمان ﴿حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ ​لَا ​يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ﴾ [النمل: 18].
ثم تنتقل القصة إلى مشهد الوعي واليقظة والدقة والحزم من القائد الذي لم يغفل عن غيبية أحد جنوده ﴿وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَآ أَرَى ​ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ﴾ [النمل: 20].
ثم تنتقل القصة إلى توضيح موضع الحزم الذي ينبغي أن يكون عليه القائد لمَّا علم أن جنديه قد غاب فتوعَّده بالمخالفة والعقاب إن لم يبرر سبب غيابه فقال: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابٗا شَدِيدًا أَوۡ لَأَاْذۡبَحَنَّهُۥٓ أَوۡ لَيَأۡتِيَنِّي بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِين﴾ [النمل: 21].

          كما أن لشباب الأمة في آيات القرآن وقَصصه حظٌّ وافرٌ ونصائح ودروسٌ جليلة؛ فيتعلم الشباب من سورة يوسف عليه السلام خُلق العفة وكيفية كبح الشهوات؛ فيوسف الشاب الوسيم تتيسر له كل أسباب الفاحشة فهو في وطن غُربة والغريب قد يفعل في وطن الغربة ما لا يفعله في بلد الإقامة، أضف إلى ذلك أن الذي دعاه لهذا المحرم هو صاحبة البيت بعد أن أعدت الأسباب ﴿وَرَٰوَدَتۡهُ ​ٱلَّتِي ​هُوَ فِي بَيۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَٰبَ وَقَالَتۡ هَيۡتَ لَكَۚ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ رَبِّيٓ أَحۡسَنَ مَثۡوَايَۖ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾ [يوسف: 23]، لكن الشاب المؤمن تعالى على تلك المغريات وفضَّل أن يكون سجينًا عن أن يقع في المحرم؛ فلجأ لربه مستغيثًا به أن يعينه على هذا الابتلاء ﴿قَالَ رَبِّ ​ٱلسِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدۡعُونَنِيٓ إِلَيۡهِۖ وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّي كَيۡدَهُنَّ أَصۡبُ إِلَيۡهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ﴾ [يوسف: 33]. 

          كما ويتعلم الشباب من قصة إبراهيم عليه السلام كيف يُستدفع الباطل بالحق؛ يوم ثار ذلك الشاب على تلك الأصنام وحطمها ﴿فَجَعَلَهُمۡ جُذَٰذًا إِلَّا كَبِيرٗا لَّهُمۡ لَعَلَّهُمۡ إِلَيۡهِ يَرۡجِعُونَ﴾ ﴿قَالُواْ سَمِعۡنَا فَتٗى يَذۡكُرُهُمۡ يُقَالُ لَهُۥٓ إِبۡرَٰهِيمُ﴾ [الأنبياء: 58].

          كما ويستفيد الشباب من قصة أهل الكهف؛ تلك القصة التي أبرزت دور الشباب في نشر التوحيد وبينت كيف هاجروا بعقيدتهم وإيمانهم حرصًا ألا يتأثروا بإرجاف الباطل ودعواته، وكيف جعل الله بداية التغيير على أيديهم فربَّ كلمةٍ أحيت أمة ﴿نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ ​فِتۡيَةٌ ​ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى * وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا﴾ [الكهف: 13].  

          كما ويتعلم الشباب في قصص القرآن الحياء والأمانة والغَيرة على الأعراض الذي تجلى في قصة بنات شعيب الرجل الصالح وسيدنا موسى عليه السلام قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَيۡنِ تَذُودَانِۖ قَالَ مَا خَطۡبُكُمَاۖ قَالَتَا لَا نَسۡقِي حَتَّىٰ يُصۡدِرَ ٱلرِّعَآءُۖ وَأَبُونَا شَيۡخٞ كَبِيرٞ۞ فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰٓ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلۡتَ إِلَيَّ مِنۡ خَيۡرٖ فَقِيرٞ﴾ [القصص: 23- 24]، فهذه القصة تذكِّرُ بطبيعة الفتاة المسلمة الملتزمة التي تؤدي وظيفتها ورسالتها على أرفع صورة مع العفة والطهر والنقاء.

          ثم تصور القصة حال تلك الفتاة يوم أرسلها أبوها إلى ذلك الشاب – موسى – ليكرمه، وما أرسلها أبوها إلا وهو واثق من عفَّتها، ودل على هذا أدبُها الذي ظهر خلال تلك المهمة ﴿فَجَآءَتۡهُ إِحۡدَىٰهُمَا تَمۡشِي عَلَى ٱسۡتِحۡيَآءٖ قَالَتۡ إِنَّ أَبِي يَدۡعُوكَ لِيَجۡزِيَكَ أَجۡرَ مَا سَقَيۡتَ لَنَاۚ فَلَمَّا﴾ [القصص: 24].

          كما ويجد المبتلى والمتألم والمحزون تسليةً في قصص القرآن يستبصر بها الأمل في الفرج، كما ظهر جلياً في قصة سيدنا أيوب عليه السلام الذي ابْتُلِيَ بصحته وعافيته وابتلي بماله وولده، وأغرى إبليس قومه فأبعدوه عنهم، فلم يزده ذلك إلاَّ شكراً وصبراً حتى عافاه الله ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83]، فماذا كانت نتيجة هذه الضراعة؟ ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء: 84].

          كما ويجد الطغاة في قصص القرآن معتبَراً فهو يرسل رسائله إليهم أنه مهما بلغ عدد جنودكم ومهما تماديتم في تجبركم فإن مآلكم الهزيمة، وأن قوة الإيمان ستغلب قوتكم مهما بلغ مداها وسورة الشعراء توضح ذلك في قصة موسى وقومه مع فرعون وجنده ﴿فَلَمَّا تَرَٰٓءَا ٱلۡجَمۡعَانِ قَالَ أَصۡحَٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا ​لَمُدۡرَكُونَ﴾ [الشعراء: 61]، وهنا يأتي دور الإيمان في وجه الطغيان فقال موسى المؤمن الواثق بربه ﴿قَالَ كَلَّآۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهۡدِينِ﴾ [الشعراء: 62]  ثم يظهر تأييد الحق وتثبيته لأهل الأيمان في وجه الطغيان ﴿فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقٖ كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِيمِ ۞ وَأَزۡلَفۡنَا ثَمَّ ٱلۡأٓخَرِينَ ۞ وَأَنجَيۡنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓ أَجۡمَعِينَ ۞ ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ﴾ [الشعراء: 63- 66].

          كما أن في قصص القرآن تربةٌ خِصبة تساعد المربين على النجاح في مهمتهم فهي تمدهم بزاد تهذيبي من سيرة النبيين وأخبارِ الماضين وسنةِ الله في خلقه.

          وأخيراً هذا هو المصحف يبعث رسائله من خلال قصصه أن الإسلام يحتاج لرجال يعملون له في كل ميدان، يحملون في قلوبهم حُرقةً لخدمة هذا الدين القويم والذود عنه. كما أنه لا يراد بهذه القصص سردُ تاريخ الأمم أو الأشخاص وإنما هي عِبرة للناس تبين سنن الله في خلقه مع الأقوام الذين كذبوا الرسل فكان عاقبة أمرهم الدمار والنكال. كما أنها تحرك المشاعر والعواطف في القلوب لأخذ العظة والعبرة منها.

           ثم بعد ذلك هي قَصص واقعيةٌ بعيدة عن الخيال والأساطير تتضح فيها أسس الدعوة إلى الله وتبيِّنُ صدق الأنبياء في دعوتهم، وأن تِكرار بعض قصص القرآن إنما هو لترسيخ الفكرة في النفوس فتتجدد العظة والعبرة منها.

اللهم انفعنا بالقرآن العظيم واجعله لنا إمامًا ورحمة.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.