سلسلة تفسير الفاتحة: جوانب تفسيرية للبسملة يقدمها الشيخ علي هاني

يتابع فضيلة الأستاذ المفسر علي هاني تفسيره لسورة الفاتحة، ويتضمن هذا الجزء كلاما متعددا في تفسيرها، فيتناول الكلام عن فاتحة الكتاب وبيان أنها مكية، ويذكر الأدلة على ذلك، ويذكر كذلك فضائل السورة من السنة النبوية، والقصد الشرعي منها، وبيان سر الابتداء بالبسلمة، واشتقاق اسم الجلالة فيها، والفرق بين الرحمن والرحيم وسر الجمع بينهما، ومذاهب السلف في التأويل والتفويض في الرحمة، وذكر خلاف المذاهب الفقهية في البسملة هل هي آية من الفاتحة أو لا؟ وذكر طَرَف من التفسير الإشاري الصوفي للبسملة.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مكيتها:
الباب الأول: هل السورة مكية أم مدنية:
هل السورة مكية أو مدنية أو نزلت مرتين في مكة والمدينة أقوال، أصحها أنها مكية، واختاره: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وعلي بن الحسين، وقتادة، وأبو العالية، وسعيد بن جبير، والحسن، وأبو العالية الرياحي، وأبو ميسرة، واختاره أبو السعود والآلوسي والبيضاوي وجمهور العلماء واسْتُدل على مكيتها بأدلة:
أ‌- الدليل الأول: ما جاء في سورة الحجر {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}والحجر مكية بلا اختلاف، ومعلوم أن الفاتحة هي السبع المثاني، ومعلوم أن الله تعالى لم يمتن عليه بإتيائه السبع المثاني وهو بمكة ثم أنزلها بالمدينة.
ب‌- الدليل الثاني: أنه لا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة فهذا إجماع، ومحال أن تفرض الصلوات ولا ينزل ما هو تمامها وبه قوامها فقد قال النبي عليه السلام من الخبر الثابت: “كُلُّ صَلاةٍ لا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ”. قالها ثلاثاً والخَدْج النقص فغير جائز أن تفرض علينا الصلوات، ولا ينزل ما يزيل عنها النقص، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بمكة يصلي ثلاثة عشر سنة بلا فاتحة الكتاب، وما حفظ أنه كانت في الإسلام صلاة بغير الفاتحة.
وقيل إنها أول ما نزل من القرآن، وأكثر المفسرين على أن أول ما نزل من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله تعالى: {مَا لَمْ يَعْلَمْ}، ولكن الفاتحة من أول ما نزل وليست أول ما نزل. وصح الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب أنها من: أول ما نزل من القرآن
قال الآلوسي: وقد لهج الناس بالاستدلالعلى مكيتها بآية الحجر {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} وهي مكية لنص العلماء والرواية عن ابن عباس ولها حكم مرفوع لا لأن ما قبلها وما بعدها في حق أهل مكة كما قيل؛ لأنه مبني على أن المكي ما كان في حق أهل مكة والمشهور خلافه، والأقوى الاستدلال بالنقل عن الصحابة الذين شاهدوا الوحي التنزيل.

******

بعض فضائل الفاتحة:
1) روى البخاري [1] عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي، فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ: “مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَ؟ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: ۲٤]” ثُمَّ قَالَ: «لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ»، فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ فَذَكَرْتُ لَهُ، وَقَالَ مُعَاذٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعَ [ص: ٦۲] حَفْصًا، سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا، وَقَالَ: “هِيَ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ السَّبْعُ المَثَانِي”.
2) روى البخاري [2] عنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: كُنَّا فِي مَسِيرٍ لَنَا فَنَزَلْنَا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الحَيِّ سَلِيمٌ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ، فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ، فَرَقَاهُ فَبَرَأَ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاَثِينَ شَاةً، وَسَقَانَا لَبَنًا، فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً – أَوْ كُنْتَ تَرْقِي؟ – قَالَ: لاَ، مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِأُمِّ الكِتَابِ، قُلْنَا: لاَ تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَ – أَوْ نَسْأَلَ – النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ»
3) روى مسلم[3] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: “هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ”.
4) روى مسلم[4] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ. فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: «اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ»؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: ۲]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: ۱]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي – وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي – فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: ٧] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ”.

******

البسملة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
البسملة مقولة على ألسنة العباد
وهذا إلى آخر السورة الكريمة مقولٌ على ألسنة العباد تلقيناً لهم، وإرشاداً إلى كيفية التبرك باسمه تعالى، وهدايةً إلى منهاج الحمد وسؤالِ الفضل، ولذلك سُميت السورةُ الكريمة بما ذكر من تعليم المسألة [5] .
معنى الباء في البسملة؟
الباء محتملة لمعنيين فهي:
1) إما للإلصاق والملابسة نحو {اهبط بسلام منا} فالإلصاق الذي تدل عليه الباء هو: لصوق ما قبلَها بما بعدَها ويكثر أن يكون فيه مخالطته وملابسة نحو: (أمسكت بزيدٍ) (رأفتَ به)، وفي جعلها للإلصاق قصد لأن يكون جميع عمله مقارنا لبركة اسم الله تعالى تركا وتيمنا، فالقارئ حين يقول {بسم الله} فمعناه: أقرأ قراءة ملابسة لبركة هذا الاسم المبارك، والكاتب إذا قال بسم الله} فمعناه: أكتب كتابة ملابسة لبركة هذا الاسم المبارك. ورجَّحَ الزمخشري في “الكشاف” هذا الوجه وهو ما رجحه سيبويه وقال: “الملابسة أعرب وأحسن”، أي أحسن من جعل الباء للآلة، لأن الباء إذا حملت على المصاحبة والملابسة كانت أدل على ملابسة جميع أجزاء الفعل لاسم الله تعالى، لما فيه من زيادة التبرك بملابسة جميع أجزاء الفعل لاسمه تعالى [6] ، وفيه الأدب والاستكانة وإظهار العبودية .
2) وإما للاستعانة نحو كتبت بالقلم، ومعنى الاستعانة هنا أن يشبه اسمه تعالى بما هو الآلة للفعل المشروع فيه من حيث إن ذلك الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعا ما لم يصدر باسم تعالى، فالقارئ إذا قال {بسم الله} فالمعنى على هذا: أقرأ مستعينا باسم الله، والكاتب قال {بسم الله} فالمعنى: أكتب مستعينا باسم الله [7] ، ويقدر متعلَّقة بمحذوف ، وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له نحو أقرأ وأكتب [8] .
سر الابتداء بالبسملة:
الناس ربما يعملون عملا أو يبتدئون في عمل ويقرنونه باسم عزيز من أعزتهم أو كبير من كبرائهم، ليكون عملهم ذاك مباركا بذلك متشرفا كما كان العرب يبدءون بأسماء آلهتهم فيقولون: باسم اللات، باسم العزى، وقد جرى كلامه تعالى هذا المجرى، فابتدأ الكلام باسمه الأعظم الله ؛وهذا يبين السر في ذكر الاسم مضافاً إلى علم الجلالة إذ قيل (بسم الله الرحمن الرحيم) دون أن يقال: بالله الرحمن الرحيم، لأن المقصود:
1) أن يكون الفعل المشروع فيه من شؤون أهل التوحيد الموسومة باسم الإله الواحد دون غيره، معلما باسمه مرتبطا به، فاسمه سبحانه هو المقصود بالافتتاح دون ما سواه
2) وللتبرك والتيمن والتشرف باسم الذات العلية، ليكون عملهم ذاك مباركا بذلك متشرفا، والاسم ذاته يتيمن به ويتبرك، فليس المراد بالاسم الذات؛ كما قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: ٧٨] فلذلك يذكر الاسم في كل ما كان على هذا المقصد:
• كالتسمية على النسك وذكرها على الذبيحة شعار من شعائر الدين قال تعالى: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} [الأنعام: ۱۱٨] وقال: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} [الأنعام: ۱۱٩].
• وكالأفعال التي يقصد بها التيمن والتبرك وحصول المعونة مثل: {اقرأ باسم ربك} [العلق: ۱] فاسم الله هو الذي تمكن مقارنته للأفعال لا ذاته، ففي مثل هذا لا يحسن أن يقال بالله لأنه حينئذٍ يكون المعنى أنه يستمد من الله تيسيراً وتصرفاً من تصرفات قدرته وليس ذلك هو المقصود بالشروع، وفي الحديث في دعاء الاضطجاع: “باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه”.
3) وليكون أدبا يؤدب به العباد في الأعمال والأفعال والأقوال، فيبتدؤوا باسمه ويعملوا به، فيكون ما يعملونه معلما باسمه منعوتا بنعته تعالى، ففيه إرشاد لنا أن نستفتح بها كل أفعالنا وأقوالنا ذات البال أي المهمة من كتب ورسائل وأكل وشرب وذبح ودخول بيت أو مسجد ونهوض وقعود.
4) فيها إظهار لمخالفة المشركين الذين يفتتحون أمورهم بذكر الأصنام ومعبوداتهم الأخرى.
5) فيها دلالة على انقطاع قائلها إلى الله تعالى واعتماده عليه لا على الأسباب الظاهرة، وإقرار بالألوهية واعتراف بالنعمة وثناء على الله بما هو أهله من الصفات العلية التزاما لاسمه تعالى في كل حركة وسكون ليكون ذلك قائدا إلى مراقبته وداعيا إلى مخافته، واعتقادُ أن مصادر الأمور ومواردَها منه وإليه.
6) وفي تعليم الناس بأن يفتتحوا أعمالهم ببسم الله تعليم ضمني أن تكون أفعالهم في حدود شرع الله فلا تتجاوزه، فتبقى دائرة في حدود الواجب والمندوب والمباح، ففي الافتتاح باسمه تعالى إضفاء صفة شرعية على العمل المفتتح، ومن ثم قال العلماء ” إن الأعمال غير المشروعة لا تفتتح باسم الله فيحرم التسمية عند فعل الحرام كشرب الخمر، كما أن في ذلك تعليما للناس بأن أعمالهم كلها لا زنة لها في كفة الدين ما لم يقصد بها وجه الله سبحانه، والعبد عندما يفتتح أي عمل باسم الله يشعر أن عمله محكوم بشرع الله فليس له أن يتصرف كما يملى عليه هواه.

******

الفرق بين الاسم والتسمية والمسمى:

الاسم:الاسمُ لغةً: ما أبانَ عن مُسَمَّى، فهو اللفظ الدال بالوضع على موجود في العيان، إن كان محسوساً، وفي الأذهان، إن كان معقولاً، ومدلوله هو المسمى .
والتسمية جعل ذلك اللفظ دليلاً على ذلك المعنى، وتأتي بمعنى ذكر الاسم. فقد اتضحت المباينة بين الاسم والمسمى والتسمية.
والمراد في البسملة الاسم الأعلى (الله)، فهو المقصود بالافتتاح تبركا وتيمنا باسم الذات العلية، ولها المكان الأقدس من العباد تبارك الله، والاسم ذاته يتيمن به ويتبرك، فليس المراد بالاسم الذات؛ لأنها مذكورة، كما قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: ٧٨]، وقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: ۱] وهذا هو الصحيح؛ لأنه لا يحتاج إلى تحول من المعنى الأصلي لكلمة الاسم إلى غيره، ولأن قصد الاسم الأسمى ابتداء يفيد معنيين، وهو تقديس الاسم في كلمة بسم الله، وتقديس المسمى وهو الله سبحانه، ولو أطلق الاسم على المسمى، لكان تقديسا للذات العلية من غير إعلاء للاسم في ذاته، ولا شك أن الأول أبلغ وأنسب بمقاصد البسملة من التبرك بذكره[9] .

******

اختار المحققون من العلماء كالزمخشري أن يكون المتعلَّق الذي يتعلق به الجار والمجرور (باسم) فعلا مؤخرا خاصا [10] لأن ما ذكر هو الأولى في تقدير المتعلق:
1) أما أولوية كونه فعلا فلأنه هو الأصل في العمل.
2) وأما أولوية كونه خاصا فلرعاية المقام، لأن كل شارع في شئ يضمر في نفسه لفظ ما كانت التسمية مبدأ له، فالكاتب يضمر أكتب، والمؤلف يضمر أؤلف، ولأن مقصد المبتدئ بالبسملة أن يكون جميع عمله ذلك مقارناً لبركة اسم الله تعالى فلذلك ناسب أن يقدر متعلق الجار لفظاً دالاً على الفعل المشروع فيه، وهو أنسب لتعميم التيمن لإجزاء الفعل. وأما أولوية كونه مؤخرا فهذا ما سيذكر في المبحث الآتي.

******

تقديم (باسم) وتقدير المتعلَّق متأخرا [11] :
ذهب الكثير إلى أن تقدير المتعلَّق هنا مؤخراً أحرى وأوقع كما في قوله {إياك نعبد}:
1) لأن اسم الله أهم وأدخل في التعظيم، ولكون التبرّك حصل به ولذا قال بعض العارفين ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله.
2) لأن اسم الله تعالى مقدم على الفعل ذاتاً فليقدم على الفعل ذكراً.
3) وأدل على الاختصاص وقطع عرق الشرِكة رداً على من يدعيها، لأن فيها تلميحاً من أول وهلة إلى إسقاط الحول والقوة ونفي استقلال قُدَر العباد وتأثيرها، وهو ظفر بكنز لا حول ولا قوة إلا بالله، ففيه تعليم للناس الذين وقف كثير منهم عند الأسباب ونسوا مسبب الأسباب، فطوى الحق تعالى تلك الأسباب وأظهر بالبسملة أن كل شيء باسمه لا بسبب سواه، كما أن خلاصة الفاتحة “إياك نعبد وإياك نستعين”.
4) ولأن الكفار كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم فيقولون: باسم اللات، باسم العزى، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عزّ وجلّ بالابتداء، فيخص اسم الله تعالى بالابتداء كأنه قال: ابتدئ قراءتي متبركًا ومتيمنًا باسم الله الذى الذى رحمته وسعت كل شئ، وحده لا باسم مغيره فأتبرأ مما كان يفعله المشركون والضالون، من ابتدائهم قراءتهم وأفعالهم باسم اللات أو باسم العزى أو باسم غيرهما من الآلهة الباطلة [12] .

******

السر في حذف المتعلق:
1) سبب حذف متعلق المجرور أن البسملة سنت عند ابتداء الأعمال الصالحة فَحُذف متعلق المجرور فيها حذفاً ملتزماً إيجازاً اعتماداً على القرينة.
2) قد أسعف هذا الحذف بفائدة وهي صلوحية البسملة ليَبتَدِىءَ بها كلُّ شارع في فعل فلا يلجأ إلى مخالفة لفظ القرآن عند اقتباسه.
3) وللإشعار بأن كل أمر ذي بال ينبغي أن يبدأ به باسم الله دون تقييد بفعل دون فعل، فقد طلب منا أن لا ندع البسملة في أي عمل ذي بال ، وبدونها سيكون مبتوراً وناقصاً،
4) ولأن هذا موطن ينبغي أن لا يُقَدَّم فيه سوى ذكر الله تعالى، فلو ذكر الفعل، وهو لا يستغني عن فاعله، لم يكن ذكر الله مقدماً، ولكن يحذف ليكون اللفظ في اللسان مطابقاً لمقصود القلب، وهو أن لا يكون في القلب ذكر إلا الله عز وجل.

******

لفظ الجلالة الله:
اسم «الله » هو اسم للذات المقدسة خالقِ الكون الأزلي ِّالذي لا أول له ولا آخر، وهو أكبر أسمائه تعالى وأجمعها، لم يسم به غيره، وهو دال على كونه مألوها معبودا متصفا بصفات الجلال والكمال والجمال، تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا، وفزعا إليه في الحوائج والنوائب.

اشتقاق اسم الله:
القول الأول: أنه مرتجل أي لم ينقل عن شيء آخر بل هو علم من أصله لذاته تعالى المخصوصة، وهو غير مشتق كما عليه أكثر العلماء، والألف واللام فيه ليستا للتعريف، قال الآلوسي: “والذي غلبه اكابر المعتبرين كالشافعي ومحمد بن الحسن والأشعري وغالب أصحابه والخطابي وإمام الحرمين والغزالي والفخرالرازي وأكثر الأصوليين والفقهاء ونقل عن اختيارالخليل وسيبويه والمازني وابن كيسان 1- أنه عربي 2- وعلم من أصله لذاته تعالى المخصوصة”.
أما أنه عربي فلا يكاد يحتاج إلى برهان، وأما أنه علم كذلك فقد استدل عليه بوجوه:
الأول أنه يوصف به. الثاني أنه لا بد له من اسم يجري عليه صفاته فإن كل شيء تتوجه إليه الأذهان ويحتاج إلى التعبير عنه قد وضع له اسم توفيقي أو اصطلاحي فكيف يهمل خالق الأشياء ومبدعها، ولم يوضع له اسم يحوي عليه ما يعزى إليه، ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه[13]، وكونه اسم جنس معرف مما لا يليق لأنه غير خاص وضعا وكونه علما منقولا من الوصفية يستدعي أن لا يكون في الأصل ما تجري عليه الصفات وهو كما ترى”.
القول الثاني:
ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه مشتق من ألَه الرجلُ إذا عبد قالوا فـ(الله) أصله (الإله) من (ألَه) بمعنى عبد، مشتق من الفعل (ألَه، يألَه)، يقال: أَلِهٌ يَأْلَهُ إِلَاهَةً وَأُلُوهَةً وَأُلُوهِيَّةً، كَمَا يُقَالُ عَبَدَ يَعْبُدُ عِبَادَةً وَعُبُودَةً وَعُبُودِيَّةً، فإلاله صفة مشبهة بمعنى مألوه، كالكتاب بمعنى المكتوب، فمعنى الإله: المستحق المستأهل للعبادة الذي تحق له العبادة؛ لأنه وحده المتصف بصفات الكمال المنعم المتفضل الخالق سبحانه [14] ، يألهه كل الخلق ويعبدونه، ثم حذفت الهمزة في الإله وأدغمت احدى اللامين في الاخرى وفخموا اللام تعظيما فقيل: الله [15] ، لكن، كلمة (إله) تطلق على المعبود، وتعم المعبود بحق وبغير حق[16] ، وكلمة {اللّه} تعالى لا تطلق إلا على المعبود بحق، فيقال: آلهة المشركين، آلهة الرومان، وآلهة المصريين، ولا يقال: (الله) إلا في مقام أنه الخالق المدبر المنشئ المستحق للعبادة؛ ولذلك كانت ألفاظ القرآن الكثيرة في مخاطبة المشركين، على أن الله تعالى معروف بأنه المنشئ، وأنه غير آلهتهم، فكانوا يقولون: الآلهة هبل، واللات، والعزى، ومناة الثالثة؛ يقولون عنها إله وآلهة ولا يقولون عن واحدة منها إنه (الله).

******

اسم «الله » دال على جميع الأسماء الحسنى، والصفات العليا:
أ‌) فإنه دال على «إلهيته» التي في ضمنها ثبوت صفات الإلهية له التي تعني جامعيته لكل صفات الكمال والجلال والجمال، فإن الألوهية في ضمنها كونه حياً، قيوماً، عالماً، قادراً، وكونه غير عاجز، ولا ناقص، قيوما، غنيا بذاته، قادرا، حكيما، وأنه معبودهم الحق الذي يستولي عليهم، وله المفزع والولوع، والمقصود بالإرادات والأعمال كلها، ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به، مع نفي أضدادها عنه، فهو المنزهة عن التشبيه والمثال، وعن العيوب والنقائص، ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم، كقوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى} [الأعراف: ۱٨٠]، ويقال: «الرحمن، والرحيم، والقدوس، والسلام، والعزيز، والحكيم » من أسماء الله، ولا يقال: «الله » من أسماء «الرحمن » ولا من أسماء «العزيز » ونحو ذلك، فأسماء الله الحسنى صفات تجري على هذا الاسم العظيم، وتضاف إليه مصادرها فيقال رحمة الله وربوبيته ومغفرته، {إن رحمة الله قريب من المحسنين}، فعلم أن اسمه «الله» مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال عليها بالإجمال، والأسماءُ الحسنى تفصيلٌ وتبيينٌ لصفات الإلهية، التي اشتق منها اسم «الله».
ب‌) وأيضا وهذه الأسماء المشتقة كل منها يدل على ذات الله تعالى وعلى الصفة التي اشتق منها معا بالمطابقة، وعلى الذات وحدها أو الصفة بالتضمن، ولكل منها لوازم يدل عليها بالالتزام، كدلالة الرحمان على الإحسان والإنعام، ودلالة الحكيم على الإتقان والنظام، ودلالة الرب على البعث والجزاء، ومن عرف الأسماء الحسنى، والصفات العليا، عرف أن اسم الجلالة الأعظم (الله) يدل عليها كلِّها وعلى لوازمها الكمالية، وعلى تنزهه عن أضدادها السلبية، فدل هذا الاسم الأعلى على اتصاف مسماه بجميع صفات الكمال، وتنزهه عن جميع النقائص.
ولما كان اسم الجلالة علما وكان جامعا لجميع معاني الأسماء الحسنى قدمه إله على أنه اسمٌ منها.

******

الفرق بين الرحمن والرحيم:

الرحمن:
الرحمن صفة تدل على مبالغة من الرحمة على وزن (فعلان) يدل على سعة هذا الوصف، فإن صيغة فعلان تدل على الامتلاء من الفعل الذي اشتقت منه، وتدل على وجود الصفة في موصوفها على نحو التمام والكمال، ألا ترى أنهم يقولون للشديد الامتلاء ملآن وللشديد الشِّبع شبعان، وكذلك غضبان، للممتلئ غضبا، وجوعان، وندمان، وحيران، ولهفان لمن مليء بذلك، فبناء فعلان للسعة والشمول، فكذلك الرحمن أصل معناه الممتلئ رحمة، والمراد أنه انتهى إلى الغاية في الرحمة والمبالغة فيها، ولازم ذلك أن تصدر عنه الرحمات بكثرة، فيرحم سبحانه الرحمات الكثيرة العظيمة الشاملة لكل شيء.
وإذا نظرنا واستقرأنا المواضع التي ورد فيها اسم الرحمن في القرآن، نجدها قد ذكرت مع الرحمة العظيمة العامة:
وهي أنه خَلق السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، ويُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ، وَيسخر الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ، وأنه رب السماوات والأرض، فبرحمة الرحمن أوجد الكون وخلق السماوات والأرض، ومهد الأرض، وجعل الجبال، ويرزق من في السموات والأرض، وبرحمته الواسعة ينزل الغيث، ويرسل الرياح، وأنه من رحمته العامة يمسك الطير في الجو، وأنه من رحمته بعث الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل الكتب، وعلم القرآن، وأعد الجنة لعباده، ووعد عباده بها إن هم آمنوا،وأنه يحشر المتقين إليه، وأنه يأذن بالشفاعة يوم القيامة، وأنه لرحمته العامة يحفظ الكفار ويؤخر عقابهم مع استحقاقهم العقوبة، وأن له الإنعام العام على جميع الخلق فينبغي أن يدعى ويسأل وأن يذكر ويشكر، وأنه يحمي من الأخطار ويستعاذ به ويستعان به، وأنه مع كل هذا الإنعام العظيم يكفر بعض الناس به، هذا الذي ذكر في القرآن مع اسم الرحمن الذي ورد أكثر من ستين مرة، وبناء على ما سبق يكون اسم.
الرحمن: دال على غاية الرحمة والمبالغة فيها، وعلى الرحمة الكثيرة المفاضة، وهي الرَّحْمَةِ العظيمة الشاملة الْعَامَّةِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ويدخل فيها جميع المخلوقات ا لإنس: مؤمنهم وكافرهم، والحيوان والطير، سماء وأرضا ظاهرا وباطنا إيجادا وإبقاء ماديا وروحيا، دنيا وأخرى، ويشمل النعم الدنيوية والدينية أيضا، ففيض رحمته منبسط ومحيط بجميع عوالم الوجود ، وهذه الرحمات يناسبها صيغة فعلان الدالة على الامتلاء والكثرة المراد بها هنا الرحمة العظيمة جدا.
وأما الرحيم:فصيغة مبالغة منقولة عن الصفة المشبهة دالة على الثبوت مع المبالغة [17] نحو: عليم، شهيد، سميع، فالرحيم يدلى على أنه سبحانه ذو رحمة ثابتة راسخة، وعلى تعلق الرحمة بالبشر خاصة ـ كما دل عليه استقراء القرآن الكريم، وتكررها، ففي الرحيم يلاحظ تعلق الرحمة بمحالِّ الرحمة وبمتعلقاته وهي البشر خاصة، وهذه الرحمة تكون في الأغلب في الرحمة الدينية فلذلك يذكر في القرآن الكريم في السياقات الآتية:
التوبة والمغفرة والعفو عن خطايا وذنوب العباد المؤمنين، والكافرين الذين رجعوا إلى الله تعالى والقبول لتوبتهم، والرحمة للعاملين بحيث يثيبهم، وأنه يخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور، ويخرج الكافرين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وأنه لا يضيع أعمال العاملين وأجورهم، وأنه من رحمته يسلم على المؤمنين في الجنة ويحل عليهم رحماته المستمرة، وأنه يخفف على عباده التكاليف فيجيز أكل الميتة لهم عند الاضطرار، ويرحم غير القادرين على الجهاد فلا يكلفهم فوق طاقتهم، وأنه يرحم المضطر ويستجيب دعاءه، وقد وردت هذه المعاني في أكثر من مائة آية.
وقد تذكر في مواضع لا تتعدى عشر آيات مع دوام وثبوت الرحمة والنعم الدنيوية ومع ذلك لا يشكر الناس نعمه نحو: [18] {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: ٧]، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [۱٨]، {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [٤٧]، {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [الإسراء: ٦٦]، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: ٦٥]، فهي رحمات ونعم مستمرة فيها دوام وطول مدة رحمته، وهذا أنسب باسم الرحيم الدال على الثبوت وعلى تعلق الرحمة بعباده كما يشير له لا تحصوها، والمضارع في تحمل، يزجي، سخر، تجري، يمسك، ومع دوام نعمه ورزقه وحفظه ورزقه وإعطائه لهم كثير من الناس يكفرون ولا يشكرون ولا يوحدون.
وهذه الرحمات جميعا في القسم الأول والثاني يناسبها الثبات وهي متعلقة بالناس، لأنه ما دام الخلق على الأرض فهم محتاجون لهذه الرحمة الثابتة الدائمة، وكذلك في الجنة التي لا تنتهي.
قال أبو حيان: “والذي يظهر أن جهة المبالغة مختلفة، فلذلك جمع بينهما، فلا يكون من باب التوكيد، فمبالغة فعلان مثل غضبان وسكران من حيث الامتلاء والغلبة، ومبالغة فعيل من حيث التكرار والوقوع بمحال الرحمة، ولذلك لا يتعدى فعلان، ويتعدى فعيل تقول زيد رحيم المساكين”. ولو زاد كلمة الثبات فقال من حيث الثبات والتكرار والوقوع بمحال الرحمة لكان في غاية الدقة[19].
وهكذا كانت رحمة الرحمن شاملة الوجود كله، والرحيم متعلق في رحمته بالمكلفين، وبهذا يظهر سر تقديم الرحمن على الرحيم [20]، فهو موافق لترتيب الوجود، النعم العامة ومنها الإيجاد ثم الخاصة بالعباد من مغفرة ورحمة وتوبة ونحوها مع ملاحظة دوام النعمة.
وتكون البسملة قد أمرتنا أن نتلو القرآن مبتدئين تالين لآياته باسمه الأقدس ليكون الفعل المشروع فيه من شؤون أهل التوحيد الموسومة باسم الإله الواحد دون غيره، معلما باسمه مرتبطا به، وللتبرك والتيمن والتشرف باسم الذات العلية نتبرك به ونتيمن، وهو الله الإله المتفرد بالخلق والتكوين والتدبير، (الرحمن) ذو الرحمة العظيمة الواسعة التي تعم الوجود كله في السموات والأرض، والدنيا والآخرة، المدبر للوجود برحمته، وهو (الرحيم) الثابت الرحمة بعباده يغفر لهم ويتوب عليهم ويثيبهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ولا يكلفهم إلى ما في طاقتهم، وينعم عليهم النعم المستمرة .

******

سر جمع الوصفين الرحمن الرحيم:
جمع فيها صفتي الرحمن الرحيم الدالتين مجتمعتين على استغراق جميع معاني الرحمة
1) للإشارة إلى شمول نعمته تعالى جميع الخلق وشمول النعم العامة والخاصة لبيان العلاقة بين الله وعباده، بأنها علاقة رحمة لا عداوة، وللدلالة على أن الرحمة غلبت الغضب ولذلك كررهما في الفاتحة.
2) ولبيان أنه المستحق وحده لأن يتبرك ويستعان ويبتدأ ويعلن اسمه سبحانه لا معبوداتهم الباطلة، لأنه ذو الرحمة العظيمة الواسعة التي تعم الوجود كله الرحيم بعباده يغفر لهم ويتوب عليهم ويثيبهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ولا يكلفهم إلى ما في طاقتهم.
3) وللترغيب والإطماع بإنعامه وإحسانه وبيان السبب الذي دفع المؤمن للتبرك والاستعانة بالله وحده، وهو ما يشعر به حشد أسماء الله تعالى الحسنى المشتقة من الرحمة في مقام التبرك والاستعانة، فالمبتدئ بها يقوى رجاؤه عند ذكر هذين الاسمين إعانته.
4) تأكيد الثناء على الله تعالى بصفة رحمته.

******

وإليك بعض الآيات التي فيها اسم الرحمن واسم الرحيم ليتضح المقام فقد كثر فيه القيل والقال:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: ٥٤]، {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: ٤-٥]، {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: ٥٩]، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: ۳]، {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} [النبأ: ۳٧]، {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}[الرعد: ۳٠]، {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: ۱۱٠]، {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ} [مريم: ۱٨]، {يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [٤٥]، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [٥٨]، {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ} [٦۱]، {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [٦٩]، {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [٧٥]، {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [٧٨]، {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [٨٥]، {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.

{فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: ٥٤]، {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: ۱٠٤]، {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: ۱٦]، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: ۱٤۳]، {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: ٤۳]، {تَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: ۳٧]،

******

التسمية جرت على ألسنة الأنبياء من قديم:
ما يراد من البسملة كان قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه السلام فهي من كلام الحنيفية، فقد جاء في كتاب سليمان عليه الصلاة والسلام إلى ملكة سبأ {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: ۳٠].
حذف الألف من باسم في الرسم{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}:
حذف الألف في بسم الله في الخط فلم تكتب على ما هو وضع الخط، وذلك:
لكثرة الاستعمال، بخلاف قوله: “اقرأ باسم ربك” [العلق:۱] فإنها لم تحذف لقلة الاستعمال، وعوضوا ذلك بتطويل الباء ليكون دالاً على سقوط الألف وليكون افتتاح كلام كتاب الله بحرف معظم تعظيماً لكتاب الله عز وجل، وقال ابن عاشور: والذي يظهر لي أن الصحابة لما كتبوا المصحف طولوها في سورة النمل [21] للإشارة إلى أنها مبدأ كتاب سليمان فهي من المحكي، فلما جعلوها علامة على فواتح السور نقلوها برسمها

******

من وجوه البلاغة في البسملة:
في البسملة طائفة من الوجوه البلاغية:
1) فيها قصر الابتداء والتبرك والاستعانة بالله عز وجل، ففي تقديم الباء تلويح إلى التوحيد حيث أفاد الحصر كما تقدم.
2) فيها حذف العامل “الفعل” حذفا ملتزماً:
أ‌) إيجازاً اعتماداً على القرينة .
ب‌) و لتكون الجملة صالحة لابتداء كل أمر ذي بال بها، ويقدر لكل أمر ما يناسبه، وبهذا تصلح البسملة ليَبتَدِىءَ بها كلُّ شارع في فعل فلا يلجأ إلى مخالفة لفظ القرآن عند اقتباسه.
ت‌) وللإشعار بأن كل أمر ذي بال ينبغي أن يبدأ به باسم الله دون تقييد بفعل دون فعل، فقد طلب منا أن لا ندع البسملة في أي عمل ذي بال ، وبدونها سيكون مبتوراً وناقصاً.
ث‌) ولأن هذا موطن ينبغي أن لا يقدم فيه سوى ذكر الله تعالى، فلو ذكر الفعل، وهو لا يستغني عن فاعله، لم يكن ذكر الله مقدماً، ولكن يحذف ليكون اللفظ في اللسان مطابقاً لمقصود القلب، وهو أن لا يكون في القلب ذكر إلا الله عز وجل.
3) فيها حسن اختيار صفتي الرحمن والرحيم لمزية فيهما، وهي مناسبتهما لموضوع التسمية المتضمنة الالتصاق والتبرك والاستعانة باسم الله تبارك وتعالى، ففي ذكر هاتين الصفتين تعريض بالمقتضي الذي دفع المؤمن للتبرك والاستعانة بالله وحده إذ الكلام إيجاز لقول القائل: “لا ابتدئ متبركا ومستعينا إلا بالله لأنه هو الرحمن الرحيم” ففي هذا سوق للمعنى مقترنا بدليله وهو ما يسمى عند البلاغيين (المذهب الكلامي) وهو: أن يساق المعنى مقترنا بدليله، مع بيان أن علاقة الله مع عباده هي علاقة رحمة من أول آية في كتاب الله .
4) فيها الجمع بين الجلال والجمال، فلفظ الجلالة الله كما يتجلى منه الجلال، كذلك يتراءى الجمال من الرحمن الرحيم، إذ الجلال والجمال أصلان تسلسل منهما فروع كالأمر والنهي، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب، والتسبيح والتحميد، والخوف والرجاء .
5) ذكر في البسملة (الرحمن، الرحيم) وذلك لحكم، منها:
أ‌) أنها تتضمن وتستلزم أسماء كثيرة كالعليم، المريد، القادر، القوي السميع، البصير الخالق، الرازق، كل هذه الأمور وسواها مآلها إلى صفة الرحمانية والرحيمية فيه تعالى، فيرزق تعالى ويشفي، ويدبر، ويقوي، ويتوب، ويغفر، الخ. لكونه رحيماً ورحماناً، فالرحمن والرحيم تستلزم هذه الصفات وغيرها دون العكس، فإذا دخلت من باب الرحمة، فإنه يوصلك إلى مضمون سائر الصفات، ويمكنك منها جميعاً، فإن مطلوب الإنسان في سير حياته أن تشمله العناية الإلهية، فيستفيد من خالقيته تعالى خلقاً، ومن رازقيته رزقاً، ومن حكمته تدبيراً، ومن قوته وانتقامه وجبروته حماية ورعاية، ومن عزته عزاً، ومن كل صفاته الجمالية كمالاً وجمالاً، وقوة، وصحة، وشفاءً، وتوبة ومغفرة، الخ، فالرحمن الرحيم تستلزم كل ذلك .
ب‌) ليعلم العارف ان المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور هو المعبود الحقيقي الله الذي هو مولي النعم كلِّها عاجلها وآجلها، جليلها وحقيرها، فيتوجه بنفسه وكله حرصا ومحبة إلى جناب القدس ويتمسك بحبل التوفيق ويُشغل سرَّه بذكره والاستمداد به عن غيره، فقد علم العارف أن الاستعانة بمسمى هذه الأسماء الشريفة إنما هي لكونه معبودا حقيقيا موليا للنعم كلها (الله، الرحمن، الرحيم).

******

الخلاف بين السلف والخلف في تأويل التفويض والتأويل في صفة الرحمة:
يجري في الرحمن الرحيم مذهب السلف والخلف:
1) فالمذهب الأول: مذهب الخلف يؤولون هاتين الصفتين باعتبار الغاية، واختاره جمع من المفسرين كالبيضاوي وأبي السعود والراغب والشربيني وأبي زهرة قالوا:
الرحمة لغة: رقة القلب والانعطاف[22] ، تقتضي التفضل والإحسان، فالتفضل غايتها، ومنه الرَّحِمُ لانعطافها على ما فيها .
وأسماء الله تعالى المأخوذة من نحو ذلك إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي تكون انفعالات، فالله تعالى لا يتصف برقة القلب ولا يليق أن يكون وصفًا لله – تعالى-؛ لأن هذا من صفات الحوادث، والله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وإنما يراد من الأوصاف التي يتصف بمثلها العباد غايتها، وثمرتها [23]
فرحمة الله تعالى إما:
1) إرادة إيصال الفضل والإحسان فهي من صفات الذات، بطريق إطلاق اسم السبب بالنسبة إلينا على مسَبَّبهِ.
2) أوالمراد ههنا التفضل والإحسان أي نفس إيصال التفضل والإحسان فهي من صفات الفعل، فثمرة الرحمة الإنعام الكامل والرزق، وغفران الذنوب، وكلاءة الله تعالى لهم، والقيام على كل ما يمدهم به بالخير والنعمة.
2) القول الثاني: مذهب السلف، أنه بعد أن ينزهوا الله تعالى عن مشابهة خلقه يفوضون، فيقولون:الرحمة بمعنى رقة القلب إنما هو فينا وحيث أن ذاته تعالى مباينة لسائر الذوات فصفاته سبحانه كذلك، فحقيقة الرحمة في حقه تعالى مباينة لحقيقته فينا، وأين التراب من رب الأرباب، فنزهوا المولى عن مشابهة المحدثات، ثم فوضوا إليه سبحانه تعيين ما أراده هو أو نبيه من الصفات المتشابهات كالرحمة، فنحن لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإحسان، قالوا وهذا أسلم فإن من قال: بعد التنزيه لا أدري من هذه المتشابهات سوى أن الله تعالى وصف بها نفسه وأراد منها معنى لائقا بجلاله جل جلاله، ولا أعرف ذلك كان عاملا بالنص وبقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، واختاره هذا الآلوسي [24] وتبعه محمد سيد طنطاوي

******

الخلاف في كون البسملة من الفاتحة:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ جُزْءٌ مِنْ آيَةٍفِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا أَيَّةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَمِنْ كُل سُورَةٍ:
1) وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالأْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،وقَال بِهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ هُوَ: أنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُل سُورَةٍ، وَإِنَّهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، أُنْزِلَتْ لِلْفَصْل بَيْنَ السُّوَرِ، وَذُكِرَتْ فِي أَوَّل الْفَاتِحَةِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَال الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قَال اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قَال اللَّهُ تَعَالَى: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَال اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قَال اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَل فَالْبَدَاءَةُ بِقَوْلِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنْ أَوَّل الْفَاتِحَةِ. إِذْ لَوْ كَانَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ لَبَدَأَ بِهَا، وَأَيْضًا: لَوْ كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ آيَةً مِنْهَا لَمْ تَتَحَقَّقِ الْمُنَاصَفَةُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي النِّصْفِ الأْوَّل أَرْبَعُ آيَاتٍ إِلاَّ نِصْفًا،وَقَدْ نَصَّ عَلَى الْمُنَاصَفَةِ؛ وَلأِنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلاَثُ آيَاتٍ. وَهِيَ ثَلاَثُ آيَاتٍ بِدُونِ الْبَسْمَلَةِ..
2) وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ إِلاَّ فِي سُورَةِ النَّمْل، فَإِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ آيَةٍ، وَيُكْرَهُ قِرَاءَتُهَا بِصَلاَةِ فَرْضٍ – لِلإْمَامِ وَغَيْرِهِ – قَبْل فَاتِحَةٍ أَوْ سُورَةٍ بَعْدَهَا،
3) رُوِيَ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْفَاتِحَةِ؛ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَرَأْتُمُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فَاقْرَءُوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَإِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنْهَا، وَلأِنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ بِخَطِّهِمْ، وَلَمْ يُثْبِتُوا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ سِوَى الْقُرْآن
4) – وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ كَامِلَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُل سُورَةٍ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصَّلاَةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَعَدَّهَا آيَةً مِنْهَا، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ سَبْعُ آيَاتٍ، إِحْدَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلأِنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوهَا فِيمَا جَمَعُوا مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَائِل السُّوَرِ، وَأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ بِخَطِّ الْقُرْآنِ، وَكُل مَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَكْتُوبٍ بِخَطِّ الْقُرْآنِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْبَسْمَلَةُ مَوْجُودَةٌ بَيْنَهُمَا، فَوَجَبَ جَعْلُهَا مِنْهُ.
5) وَاتَّفَقَ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الأْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ أَنَّهَا آيَةٌ فِي أَوَائِل السُّوَرِ لاَ يُعَدُّ كَافِرًا لِلْخِلاَفِ السَّابِقِ فِي الْمَذَاهِبِ[25] .

******

الْبَسْمَلَةُ فِي الصَّلاَةِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلإْمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، فِي رَكَعَاتِ الصَّلاَةِ، لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي أَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُل سُورَةٍ:
1) وَحَاصِل مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ يُسَنُّ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ سِرًّا لِلإْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ فِي أَوَّل الْفَاتِحَةِ مِنْ كُل رَكْعَةٍ، وَلاَ يُسَنُّ قِرَاءَتُهَا بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأِنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَذُكِرَتْ فِي أَوَّلِهَا لِلتَّبَرُّكِ[26] . وَحُكْمُ الْمُقْتَدِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَقْرَأُ لِحَمْل إِمَامِهِ عَنْهُ.
2) وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ، فَلاَ تُقْرَأُ فِي الْمَكْتُوبَةِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا مِنَ الإِْمَامِ أَوِ الْمَأْمُومِ أَوِ الْمُنْفَرِدِ، وَيُكْرَهُ قِرَاءَتُهَا بِفَرْضٍ قَبْل الْفَاتِحَةِ أَوِ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَلِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ فِي حُكْمِ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلاَةِ، قَال الْقَرَافِيُّ: الْوَرَعُ الْبَسْمَلَةُ أَوَّل الْفَاتِحَةِ، وَقَال: مَحَل كَرَاهَةِ الإْتْيَانِ بِالْبَسْمَلَةِ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْخُرُوجَ مِنَ الْخِلاَفِ الْوَارِدِ فِي الْمَذْهَبِ، فَإِنْ قَصَدَهُ فَلاَ كَرَاهَةَ.
3) وَالأْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإْمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ فِي كُل رَكْعَةٍ مِنْ رَكَعَاتِ الصَّلاَةِ فِي قِيَامِهَا قَبْل فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصَّلاَةُ فَرْضًا أَمْ نَفْلاً، سِرِّيَّةً أَوْ جَهْرِيَّةً.
4) وَعَلَى الأْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجِبُ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ وَمَعَ كُل سُورَةٍ فِي رَكَعَاتِ الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُل سُورَةٍ؛ وَعَلَى الأْصَحِّ: يُسَنُّ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأْولَيَيْنِ مِنْ كُل صَلاَةٍ، وَيُسْتَفْتَحُ بِهَا السُّورَةُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَيُسَرُّ بِهَا؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسِرُّ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الصَّلاَةِ[27] .

******

فإن قيل: القرآن لا بد أن يثبت بالتواتر، فكيف اختلف في الفاتحة؟
وأحسن إجابة عن هذا أن اختلاف الروايات الآحادية في الإسرار بالبسملة والجهر بها قوي، وأما الاختلاف في كونها من الفاتحة أو ليست منها فضعيف، وإن قال به بعض كبار العلماء:
1) لأن رسم المصحف الإِمام القطعي المتواتر أثبتها في المصحف بخطه من غير نكير، وهذا الرسم بتواتره خطا وتلقينا أقوى من الروايات القولية، وأعصى على التأويل والاحتمال يؤيد أنها من القرآن.
2) وجميع القراء العشرة أصحاب القراءات المتواترة التي لا يصح أن تعارض برواياتٍ آحاديةٍ وأدلةٍ لا تقوى أن تعارض المتواتر ـ أثبتوا البسملة عند الابتداء بالفاتحة لم يسقطها منهم أحد إنما اختلفوا في الجر والإسرار بها .
وأما قول العلماء:إن منكر كون البسملة من الفاتحة أو من كل سورة لا يكفر، فليس معناه أن كونها قرآنا غير ثابت بل هي ثابتة، ولكن منكرها لا يكفر لتأويله الدليل القطعي بشبهة المعارضة التي وردت أو فُهِمت في بعض الروايات.

******

التفسير الإشاري:
قال بعضهم من باب الإشارة: كسرت الباء في البسملة تعليماً للتوصل إلى الله تعالى والتعلق بأسمائه بكسر الجناب والخضوع وذل العبودية، فلا يتوصل إلى نوع من أنواع المعرفة إلا بنوع من أنواع الذل والكسر، فإن الخفض يقابل الرفع فمن خفضه النظر إلى ذل العبودية، رفعه القدَر إلى مشاهدة عز الربوبية، فلتعليم العباد إذا بدءوا بأمر كيف يبدءون به؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة وأخرجه الحافظ عبد القادر الرهاوي: “كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر” والبال الحال والشأن فمعنى ذي بال ذو بال شريف يحتفل به ويهتم، وفي هذا الوصف أعنى (ذي بال) فائدتان:
أ‌) إحداهما رعاية تعظيم اسم الله تعالى لأن يبتدئ به في الأمور المعتد بها.
ب‌) والأخرى التيسير على الناس في محقرات الأمور.
قال القشيري: “الباء في بسم الله حرف التضمين؛ أي بالله ظهرت الحادثات، وبه وجدت المخلوقات، فما من حادث مخلوق، وحاصل منسوق، من عين وأثر وغبر، وغيرٍ من حجر ومدر، ونجم وشجر، ورسم وطلل، وحكم وعلل – إلا بالحق وجوده، والحق مَلِكُه، ومن الحق بدؤه، وإلى الحق عوده، فبه وَجَدَ من وَحَّد، وبه جحد من الحد، وبه عرف من اعترف، وبه تخلَّف من اقترف”.
وكونها تسعة عشر حرفا إشارة إلى أنها دوافع النقمة من النار التي أصحابها تسعة عشر، فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم: “عليها تسعة عشر” روى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود قال: “من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ “بسم الله الرحمن الرحيم” ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد”، ونظيره أيضا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل: “ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فإنها بضعة وثلاثون حرفا، فلذلك قال النبي الله صلى الله عليه وسلم: “لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول)” قال ابن عطية: وهذا من مُلَح التفسير وليس من متين العلم.

******

لطائف:

قال الآلوسي: “وإن أردت أن تمتحن ذهنك في بعض أسرارها فتأمل:
1) سر افتتاحها واختتامها بحرفين شفويين (ب، م).
2) ومع كل ألف صورية متصلة بأول الأول (باسم، الله) (الرحمن، الرحيم) وآخر الآخر.
3) وتحت الأول دائرة غيبية ظهرت في صورة الثاني.
4) وسر ما وقع فيها من أنواع التثليث:
أ‌) أما أولاً ففي مخارج الحروف فإنها ثلاثة الشفة واللسان والحلق في الباء واللام والهاء.
ب‌) وأما ثانياً ففي المحذوف من حروفها فإنها ثلاثة أيضاً ألف الاسم وألف الله وألف الرحمن.
ت‌) وأما ثالثاً ففي المنطوق منها والمرسوم فإنه ثلاثة أنواع أيضاً منطوق بها مرسوم كالباء ومنطوق به غير مرسوم كألف الرحمن ومرسوم غير منطوق به كاللام منه مثلاً.
ث‌) وأما رابعاً ففي المتحرك والساكن، فمتحرك لا يسكن كالباء وساكن لا يتحرك كالألف، وقابل لهما كميم الرحيم وقفاً ووصلاً.
ج‌) وأما خامساً ففي أنواع كلماتها الملفوظة والمقدرة فهي على رأي اسم وفعل وحرف،
ح‌) وأما سادساً ففي أنواع الجر الذي فيها فهو جر بحرف وبإضافة وبتبعية على المشهور.
خ‌) وأما سابعاً ففي الأسماء الحسنى التي دبجتها فهي الله والرحمن والرحيم.
د‌) وأما ثامناً ففي العاملية والمعمولية فكلمة عاملة غير معمولة ومعمولة غير عاملة وعاملة معمولة.
ذ‌) وأما تاسعاً ففي الاتصال والانفصال فمتصل بما بعده فقط وبما قبله فقط وبما بعده وقبله.
ر‌) وفي كل واحد من هذه الثلاثيات أسرار تحير الأفكار وتبهر أولي الأبصار
5) وانظر لم اشتملت حروفها على الطبائع الأربع وتقدم في الظهور الهواء
6) ولم كانت تسعة عشر؟
7) ولم اعتنق اللام الألف واتصلت الميم باللام والهاء بالراء والنون بها نطقاً لا خطاً؟
8) ولم فتح ما قبل الألف حتى لم يتغير في موضع أصلاً؟
9) وتفكر في سر تربيع الألفاظ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وسكون السين وتحرك الميم ونقطتي الياء ونقطة النون والباء.
10) وقال الآلوسي: “{لا يقال} إذا كانت الفاتحة جامعة لمعاني الكتاب فلم سقط منها سبعة أحرف الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء لأنا نقول: لعل ذلك للإشارة إلى أن الكمال المعنوي لا يلزمه الكمال الصوري ولا ينقصه نقصانه، إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وكانت سبعة موافقة لعدد الآي المشتمل على الكثير من الأسرار، وكانت من الحروف الظلمانية التي لم توجد في المتشابه من أوائل السور ويجمعها بعد إسقاط المكرر: (صراط على حق نمسكه) وهي النورانية المشتملة عليها بأسرها الفاتحة للإشارة إلى غلبة الجمال على الجلال المشعر بها تكرر ما يدل على الرحمة في الفاتحة …”
11) وقد وضح هذا مع تدقيق عبد الدائم الكحيل، ألخص بعض ما ذكره:
الحقيقة الأولى: عدد آيات سورة الفاتحة هو سبع آيات. الرقم سبعة له حضور خاص عند كل مؤمن. فعدد السماوات 7 وعدد الأراضين 7 وعدد أيام الأسبوع 7 وعدد الأشواط التي يطوفها المؤمن حول الكعبة 7، وكذلك السعي بين الصفا والمروة 7 ومثله الحصيات التي يرميها المؤمن 7، والسجود يكون على سبعة أَعْظُم، وقد تكرر ذكر هذا الرقم في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم مثل:(سبعة يظلهم الله في ظله… اجتنبوا السبع الموبقات…..) وغير ذلك مما يصعب إحصاؤه. وهذا التكرار للرقم سبعة لم يأتِ عبثاً أو بالمصادفة. بل هو دليل على أهمية هذا الرقم حتى إن الله تعالى قد جعل لجهنم سبعة أبواب
الحقيقة الثانية: عدد الحروف الأبجدية للغة العربية التي هي لغة القرآن 28 حرفاً، وهذا العدد من مضاعفات السبعة
عدد حروف لغة القرآن هو 28 حرفاً = 7 × 4
سبعة حروف غير موجودة في سورة الفاتحة وهي (ث، ج، خ، ز، ش، ظ، ف)، فيكون عدد الحروف الأبجدية في سورة الفاتحة 21 حرفاً وهذا العدد أيضاً من مضاعفات السبعة:
عدد الحروف الأبجدية في سورة الفاتحة هو 21 حرفاً = 7 × 3
الحقيقة الثالثة:
في القرآن الكريم حروف ميَّزها الله تعالى ووضعها في مقدمة تسع وعشرين سورة سُمّيت بالحروف المقطعة في أوائل السور، وأفضّل تسميتها بالحروف المميزة، عدد هذه الحروف عدا المكرر هو 14 حرفاً وهذا العدد من مضاعفات الرقم سبعة:
عدد الحروف المقطعة في القرآن (عدا المكرر) هو 14 حرفاً = 7 × 2
والعجيب أن هذه الحروف الأربعة عشر موجودة كلها في سورة الفاتحة، وإذا قمنا بعدّ هذه الحروف في السورة لوجدنا بالضبط 119 حرفاً، وهذا العدد من مضاعفات السبعة:
عدد الحروف المقطعة في سورة الفاتحة (عدا المكرر) هو 14 حرفاً = 7 × 2
عدد الحروف المقطعة في سورة الفاتحة (مع المكرر) هو 119 حرفاً = 7 × 17
الحقيقة الرابعة:
من أعجب التوافقات مع الرقم سبعة أن عدد حروف لفظ الجلالة (الله) في سورة الفاتحة هو سبعة في سبعة!! فهذا الإسم مؤلف من ثلاثة حروف أبجدية هي الألف واللام والهاء، وإذا قمنا بعدّ هذه الحروف في سورة الفاتحة وجدنا 49 حرفاً وهذا العدد من مضاعفات السبعة مرتين:
عدد حروف الألف واللام والهاء في سورة الفاتحة هو 49 حرفاً = 7 × 7
ذكرنا بأن عدد الحروف المقطعة في القرآن هو 14 حرفاً أي 7 × 2، والعجيب أن عدد الافتتاحيات عدا المكرر هو أيضاً 14. وأول افتتاحية هي (الــم) هذه الحروف الثلاثة تتكرر في سورة الفاتحة بشكل مذهل
الحقيقة الخامسة:
من عجائب أمّ القرآن أنها تربط أول القرآن بآخره، ويبقى الرقم 7 هو أساس هذا الترابط المذهل، فأول سورة في القرآن هي الفاتحة ورقمها 1، وآخر سورة في القرآن هي سورة الناس ورقمها 114، هذان العددان يرتبطان مع بعضها ليشكلان عدداً مضاعفات السبعة:
بقي أن نشير إلى أن عدد كلمات أول آية هو 4 وآخر آية هو 10 ومجموع هذين العددين هو من مضاعفات الرقم سبعة:
مجموع كلمات أول آية وأخر آية من الفاتحة: 4 + 10 = 14 = 7 × 2
كلمات أول سورة وآخر سورة في القرآن
إن أول سورة في القرآن هي الفاتحة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)، وعدد كلماتها هو 29 كلمة، أما آخر سورة في القرآن فهي سورة الناس (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)، وعدد كلماتها هو 20 كلمة، ويكون المجموع:
29 + 20 = 49 كلمة وهذا العدد هو سبعة في سبعة!
كلمات أول آية وآخر آية في القرآن
عدد كلمات أول آية في القرآن وهي (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) 4 كلمات، وعدد كلمات آخر آية من القرآن وهي (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) هو 3 كلمات، ويكون المجموع:
4 + 3 = 7 بالتمام والكمال
{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الرقان: ٦]

 
 

[1] برقم 4647 باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.
[2] رقم 5007 – باب فضل فاتحة الكتاب
[3] برقم (807) باب فضل الفاتحة وخواتيم البقرة
[4] باب وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة
[5] قال الزمخشري:فإن قلت: فكيف قال الله تبارك وتعالى متبركاً باسم الله أقرأ؟ قلت: هذا مقول على ألسنة العباد، كما يقولُ الرجل الشعر على لسان غيره، وكذلك: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} إلى آخره، وكثير من القرآن على هذا المنهاج، ومعناه تعليم عباده كيف يتبركون باسمه، وكيف يحمدونه ويمجدونه ويعظمونه.
[6] وأدلة كون الملابسة أرجح من الاستعانة: 1) لما فيه من زيادة التبرك بملابسة جميع أجزاء الفعل لاسمه تعالى،2) ولأن الأنسب بذكر اسم الله دون أن يقال بالله أن تكون الباء للملابسة على وجه التبرك وإلا لقيل بالله، 3) باء المصاحبة هي الأكثر في الاستعمال من باء الاستعانة لا سيما في المعاني وما يجري مجراها من الأفعال، 4)وبأن المقصود من البسملة أن يكون الفعل المشروع فيه من شؤون أهل التوحيد الموسومة باسم الإله الواحد دون غيره، وللتبرك والتيمن والتشرف باسم الذات العلية وبأن ابتداء المشركين بأسماء آلهتهم كان على وجه التبرك فينبغي أن يرد عليهم في ذلك وهذا المعنى يناسبه الملابسة 5) ولأن جعل الباء للملابسة على وجه التبرك تتضمن الاستعانة لا العكس، ولذلك نجد بعض العلماء كابن كثير جمع مع الملابسة الاستعانة حيث قال: “فلك أن تقدر الفعل ومصدره، وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله، إن كان قيامًا أو قعودًا أو أكلا أو شربًا أو قراءة أو وضوءًا أو صلاة، فالمشروع ذكر اسم الله في الشروع في ذلك كله، تبركًا وتيمنًا واستعانة على الإتمام والتقبل” 6) ولأن جعلها للاستعانة يؤدي إلى التكرار مع {وإياك نستعين}.
[7] رجح الاستعانة ابن سيده والراغب والسمين الحلبي والخازن والبيضاوي والآلوسي، واستدلوا بأدلة منها: أن جعله للاستعانة يشعر بأن له زيادة مدخل في الفعل حتى كأنه لا يتأتى ولا يوجد بدون اسم الله تعالى إذ فيها من الأدب والاستكانة وإظهار العبودية ما ليس في دعوى المصاحبة لأن فيها تلميحاً من أول وهلة إلى إسقاط الحول والقوة ونفي استقلال قدر العباد وتأثيرها وهو استفتاح لباب الرحمة وظفر بكنز لا حول ولا قوة إلا بالله 2) ولأن هذا المعنى أمسّ بقوله تعالى {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}3) قالوا: إنما قال “بسم الله” ولم يقل “الله” لأنه لما استحب الاستعانة بالله تعالى في كل أمر يفتتح به من قراءة وغيرها، فبعضهم – يذكره – بقلبه، وبعضهم يزيد عليه ويقوله بلسانه ويكون أبلغ – و”ذكر الله مستعمل في كل ذلك” – وألفاظ الاستعانة نحو “أستعين بالله” و”اللهم أعني” ونحو ذلك كثير، فصار لفظة “بسم الله” مستغني به عن جميعها وقائماُ مقامها، ولو قال “بالله” (لكان يقتضي الاستعانة) بهذه اللفظة فقط .4) لأن المشركين إلى الاستعانة بآلهتهم أقرب إذ هم وسائطهم في التقرب إليه تعالى وهي أشبه بالآلة.
[8] وتقدير الفعل الخاص أمس وأخص بالمقصود، وأتم شمولاً فإنه يقتضي أن القراءة واقعة بكمالها مقرونة بالتسمية بخلاف تقدير أبتدئ إذ لا تعرض له لذلك.
[9] أما إن جعلنا الباء للاستعانة، فالإتيان بالاسم دون أن يقال بالله:
1) لأن الاستعانة بذكر اسمه
2) ولأنه لما استحب الاستعانة بالله تعالى في كل أمر يفتتح به من قراءة وغيرها، فبعضهم – يذكره – بقلبه، وبعضهم يزيد عليه ويقوله بلسانه ويكون أبلغ، وذكر الله مستعمل في كل ذلك وألفاظ الاستعانة نحو “أستعين بالله” و”اللهم أعني” ونحو ذلك كثير، فصار لفظة “بسم الله” مستغنى به عن جميعها وقائماُ مقامها، ولو قال “بالله” لكان يقتضي الاستعانة بهذه اللفظة فقط،
3) وقال بعضهم المراد بالاسم المسمى فصحت الاستعانة به، وأمر الإضافة هين.
[10] يقابل الخاص أن يكون عاما نحو: أبتدئ
[11] المتعلق هو ما يتعلق به الجار والمجرور من الفعل أو المشتق مثل مررت بزيد، فبزيد كملت معنى مررت فهي متعلقة به، ومررت عاملة في بزيد، والبسملة تحتاج إلى متعلق ليتم المعنى مثل بسم الله أقرأ وأو أكتب أو أجلس، فكل من هذه الأفعال يسمى متعلقا (بفتح اللام)، جمهور العلماء رجحوا أن يقدر المتعلَّق متأخرا فيقدر باسم الله الرحمن الرحيم أقرأ مثلا، ورجح ابن عاشور والآلوسي أنه يقدر متقدما، واتفق الكل أن المراد الاختصاص سواء قدر المتعلَّق متقدما أو متأخرا، فالقائلون بتقديره متأخرا يقولون دل تقديم الجار على الحصر والقائلون بتقديره متقدما قالوا المقام دل على الحصر.
[12] وإنما قُدّم المتعلق في قوله: «اقرأ باسم ربك » للاهتمام بالقرآن؛ لأن سورة العلق أوّل سورة نزلت فالأهم ثَّم هو القراءة ولذا قدم الفعل ولا كذلك في التسمية، وأيضا التقديم في البسملة للحصر وقطع عرق الشركة رداً على من يدعيها فناسب تقديم الاسم بخلاف سورة العلق فالمقام ليس للحصر ولكل مقام مقال والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال
[13]) أي لا يصلح لأن يكون اسما لذاته المخصوصة من بين اسمائه تعالى سوى لفظ الجلالة لعدمم ظهورمعنى الوصفية فيه بخلاف سائر أسمائه الحسنى فإنها صفات مشتقة بلا خفاء.
[14] قال الإمام النيسابوري “وينبغي أن يكون المراد من كون الله تعالى معبوداً كونه مستحقاً ومستأهلاً لأن يعبده كل من سواه كما يليق بحال العابد، فإن اللائق بحال المعبود لا يقدر عليه أحد من المخلوقات. ولا يخفى أن الاستحقاق والاستئهال حاصل له أزلاً وأبداً، فيكون إلهاً أزلاً وأبداً وإن كل من سواه عابد له بقدر استعداده وعلى حسب حاله، حتى النبات والجماد والكافر والفاسق”. غرائب القرآن ورغائب الفرقان (1 /76) .
[15] فخم لفظ الجلالة بعد الفتحة والضمة دون الكسرة: أما الأول (بعد الفتحة والضمة)، فللفرق بينه وبين لفظ اللات في الذكر، ولأن التفخيم مشعر بالتعظيم، ولأن اللام الرقيقة تذكر بطرف اللسان والغليظة تذكر بكل اللسان فكان العمل فيه أكثر، فيكون أدخل في الثواب. وأما الترقيق فلأن النقل من الكسرة إلى اللام الغليظة ثقيل على اللسان لكونه كالصعود بعد الانحدار.
[16] وأمّا “إله” المجردُ من الألف واللام فيُطلق على المعبود بحقٍّ وعلى غيره، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: ۲۲]، {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}
[17] مما يرجح أنه صيغة مبالغة اقترانه بصيغ المبالغة في آيات كثيرة: {التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}،{غَفُورٌ رَحِيمٌ}، {رَحِيمٌ وَدُودٌ}، قال ابن طلحة: فعيل لمن صار له كالطبيعة، قال السامرائي في معاني الأنبية 102: وتوضيح الأمر أن هذا البناء منقول من فعيل الذي هو من أبنية الصفة المشبهة وبناء فعيل في الصفة المشبهة يدل على الثبوت فيما هو خلقة أو بمنزلتها كطويل وقصير وفقيه وخطيب، وهو في المبالغة يدل على معاناة الأمر وتكراره حتى أصبح كأنه خلقة في صاحبه وطبيعة فيه كعليم، أي هو لكثرة نظره في العلم وتبحره فيه أصبح العلم سجية ثابتة في صاحبه كالطبيعة فيه، ومثل ذلك في الصفة المشبهة: فقيه وخطيب، قال المصطفوي في التحقيق (4/104) الصيغة تدل على الثبوت واتصاف الذات بالوصف على سبيل اللزوم، فإن الكسرة تدل على رسوخ وثبوت زائد والياء من حروف المد تدل على امتداد في الاتصاف وهذا هو الفرق بين (فعِل) و(فعيل) كخشن وشريف .
[18] اذكر مثالا لذلك خمس آيات، الآية الأولى والثانية : {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فهي رحمات ونعم مستمرة لا تحصى ليشكروه وهذا أنسب بالرحيم الدال على الثبوت وعلى تعلق الرحمة بعباده كما يشير له لا تحصوها، والمضارع في تحمل، قال أبو السعود: حيث يُفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحِرمان بما تأتون وتذرون من أصناف الكفرِ التي من جملتها عدمُ الفرق بين الخالقِ وغيرِه، الآية الثالثة: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} فهنا المراد دوام وطول مدة رحمته بهم مع قدرته على تعجيل العقوبة، فهو رحيم حيث لا يعاجلكم بالعقوبة ويحلُم عنكم مع استحقاقكم لها، الآية الثالثة: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} وهذا مناسب لدوام الرحمة حيث هيأ لكُم ما تحتاجونَ إليهِ وسهّل عليكم ما يعسُر من مباديه وهذا تذييلٌ فيه تعليلٌ لما سبق من الإزجاء لابتغاء الفضلِ، الآية الرابعة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}وهذا مناسب لدوام الرحمة وتعلقها بعباده كما يدل عليه سخر، تجري ويمسك قال أبو السعود: حيث هيَّأ لهم أسبابَ معاشِهم وفتحَ عليهم أبوابَ المنافعِ وأوضح لهم مناهجَ الاستدلالِ بالآيات التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ.
[19] وكذلك قال السمين الحلبي: “والظاهر أن جهةَ المبالَغَةِ فيهما مختلفةٌ، فمبالغةُ» فَعْلان «من حيث الامتلاءُ والغَلَبَةُ ومبالغةُ» فعيل «من حيث التكرارُ والوقوع بمَحَالِّ الرحمة”، اهـ الدر المصون في علوم الكتاب المكنون(1/ 33)
[20]ما ذكرته في الأعلى هو الصحيح الذي دل عليه استقراء القرآن؛ لأنه مبني على استقراء جميع آيات القرآن التي ورد فيها اسم الرحمن والرحيم، وقد ذكر جماعة من أهل التفسير واللغة هذا المعنى أو قريبا منه مثل: المصطفوي في التحقيق وصاحب المعجم الاشتقاقي محمد حسن جبل، ثم الخطابي وأبو زهرة وحقي، قال التحقيق: “فالرحمن من امتلأ رحمة، فيكو ن هذا في حقه سبحانه عبارة عن فعلية الرحمة الكلية الواسعة لجميع الموجودات قاطبة، وهذا إذا أطلقت هذه الصيغة معرفة باللام عليه تعالى وقد ذكر في القرآن الكريم في سبعة وخمسين موردا، كلها معرفا ومرادا بها الله المتعال” (4/98″ (الرحيم): الصيغة تدل على الثبوت واتصاف الذات بالوصف على سبيل اللزوم، فإن الكسرة تدل على رسوخ وثبوت زائد والياء من حروف المد تدل على امتداد في الاتصاف وهذا هو الفرق بين (فعِل) و(فعيل) كخشن وشريف اهـ بتصرف قليل، قال المعجم الاشتقاقي: “فالرحمن الرحمة الذاتية العظمى الدائمة فالرحمن تعنى ذا الرحمة الممتلئ بها الملازمة له وهذه الملازمة وأنها صفة ذاتية باطنة سر اختصاص هذا الاسم به تعالى، لأنه الرحمن الحق الدائم الرحمة العام برحمته المؤمن والكافر ولذا قامت هذه الصفة مقام اسم الذات في مثل {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ}{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ}، والرحيم: صفة فعل لذلك تراها في جميع مواضعها يلاحظ فيها تطلب الموضع لوقوع الرحمة ومسبوق بما يناسبها كالغفور والرءوف والتواب والبر فكل من الرحمن والرحيم مجاله، فالرحمن تعنى ذا الرحمة الممتلئ بها الملازمة له وهذه الملازمة وأنها صفة ذاتية باطنة سر اختصاص هذا الاسم به تعالى، لأنه الرحمن الحق الدائم الرحمة العام برحمته المؤمن والكافر والرحيم: الرحمة الفياضة العظمى التي يتقلب في كنفها عباده، وللمؤمنين منها الحظ الأوفى، إذ هم ميدانها ومجالها بوعده وبفضله تبارك وبه يتحقق الترقي من الرحمن إلى الرحيم عند اجتماعهما كما في البسملة والفاتحة وغيرهما” اهـ، قال الخطابي: “فـ {الرحمن}: ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم، وعمت المؤمن والكافر. و{الرحيم}: خاص للمؤمنين. قال عز وجل: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 43].” يقول علي هاني: فقول الخطابي في الرحمن دقيق لكن قصره الرحيم على المؤمنين هذا أغلبي فغالب الآيات التي في الرحيم للمؤمنين لكن هناك آيات أخرى للعموم الناس {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} سورة البقرة، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} سورة الحج. وقال أبو زهرة: “وعند الاتجاه إلى استقراء الآيات القرآنية ـ ـ ـ ـ .ومن هذه الموازنات بين استعمال القرآن لكلمة (رحمن)، واستعماله لكلمة (رحيم) ننتهي إلى ما يأتي:
أولا: أن وصف الرحمن وصف ذاتي للذات العلية لا يتعلق بفعل ولا بشخص يذكر، ولكنه وصف لله أو اسم له كلفظ الجلالة، ولكنه يشعرنا بالرحمة، كما أنه لفظ يشعر بالألوهية واستحقاق العبادة، ولذلك قال بعض العلماء: إن كلمة (الرحمن) اسم لله تعالى، وأما (الرحيم) فهو وصف لله تعالى يتعلق برحمته بالعباد المكلفين المخاطبين بشريعته، والذين طلب منهم أن يقوموا بحق الله تعالى في إجابة أوامره، واجتناب نواهيه؛ ولذلك يقترن كثيرا بالتوبة والمغفرة. ثانيا: أن الرحمة في (الرحمن) أكثر من (الرحيم)؛ ولذلك قالوا: إن رحمة الرحمن، هي الرحمة بالوجود كله، فبرحمة الرحمن يرزق الله من في السموات والأرض، وبرحمته الواسعة ينزل الغيث، ويرسل الرياح، ومهد الأرض، وجعل الجبال، وبرحمة الرحمن بعث الرسل مبشرين ومنذرين، وبرحمة الرحمن جازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأنعام: ۱٦٠]، وهكذا كانت رحمة الرحمن شاملة الوجود كله، والرحيم متعلق في رحمته بالمكلفين.
ثالثا: أن (الرحمن) أكثر رحمة لما في الوصف بالرحمة فيه من شمول يشمل الوجود الإنساني كله، ووصف (الرحيم) خاص بالمكلفين، كما يدل على ذلك سياق اللفظ في القرآن الكريم اهـ بتصرف (زهرة التفاسير (1/53) .
قال الشيخ حقي في روح البيان: “الرحمانية عامة لشمول الذات جميع الأشياء علما وعينا والرحيمية خاصة لأنها تفصيل تلك الرحمة العامة الموجب لتعيين كل من الأعيان بالاستعداد الخاص بالفيض الأقدس والصفاتية” (روح البيان (1/8).
[21] وتطويل الباء فيها صالح لاتخاذه قدوة في ابتداء الغرض الجديد من الكلام بحرف غليظ أو ملون.
[22] قال محمد حسن جبل في المعجم الاشتقاقي: المعنى المحوري لمادة (ر، ح، م): اتساع في باطن الشيء المتضام أو أثنائه مع رقة وبلال كالرَحِم وهو كيس الجنين وهو رخو رطب ويتسع للجنين، ومن سعة الباطن مع التندِّي والرقة الرحمة وهي رقة القلب والعطف من الشخص على من يضم. قال المصطفوي في التحقيق (4/98) الرحمة تجلي الرأفة وظهور الحنَّة والشفقة، وتكون في مقام التعلق والإظهار، ويلاحظ فيها الخير والصلاح، ولو أوجدت كراهة أو ألما أو ابتلاء كما في إسقاء الدواء المر للمريض، فالرقة توجد في القلب أولا ثم يحصل اللطف ثم العطوفة ثم الحنَّة ثم الرأفة ثم الرحمة، وأما الإحسان والإنعام والإفضال فيصدق في مورادها الرحمة مع خصوصيات وقيود ملحوظة فيها “فالإحسان فيه جعل الشيء حسنا والإتيان بأحسن الأمور على أحسن الوجوه، والإفضال فيه التفضل بالكثير الزائد وعدم الوجوب، والإنعام فيه إيجاد النعمة وهي طيب العيش وحسن الحال في مقابل البؤس”. يقول علي هاني: أما الفرق بين الرحمة والرأفة: أن الرأفة الرحمة والشفقة الشديدة القوية بحيث لا تقبل وقوع ألم ولا توجب كراهة ففيها العناية بالضعيف ودفع المكروه والضرر ودفع ما يضره ويؤذيه {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}، وأما الرحمة فهي أعم ويلاحظ فيها الخير والصلاح ولو أوجدت كراهة أو ألما أو ابتلاء.
[23] قال الرازي في موضع آخر:” الْغَضَبُ: تَغَيُّرٌ يَحْصُلُ عِنْدَ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ لِشَهْوَةِ الِانْتِقَامِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا عَلَى اللَّهِ تعالى محال، لكن هاهنا قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ- أَعْنِي الرَّحْمَةَ، وَالْفَرَحَ، وَالسُّرُورَ، وَالْغَضَبَ، وَالْحَيَاءَ، وَالْغَيْرَةَ، وَالْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ، وَالتَّكَبُّرَ، وَالِاسْتِهْزَاءَ- لَهَا أَوَائِلُ، وَلَهَا غَايَاتٌ، وَمِثَالُهُ الْغَضَبُ فَإِنَّ أَوَّلَهُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، وَغَايَتَهُ إِرَادَةُ إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَلَفْظُ الْغَضَبِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُحْمَلُ عَلَى أَوَّلِهِ الَّذِي هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، بَلْ عَلَى غَايَتِهِ الَّذِي هُوَ إرادة الاضرار، وأيضاً، والحياء لَهُ أَوَّلٌ وَهُوَ انْكِسَارٌ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ، وَلَهُ غَرَضٌ وَهُوَ تَرْكُ الْفِعْلِ، فَلَفْظُ الْحَيَاءِ فِي حَقِّ اللَّهِ يُحْمَلُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ لَا عَلَى انْكِسَارِ النَّفْسِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ”.
[24] قال الآلوسي: “فلأن كون الرحمة في اللغة رقة القلب إنما هو فينا، وهذا لا يستلزم ارتكاب التجوز عند إثباتها لله تعالى لأنها حينئذ صفة لائقة بكمال ذاته كسائر صفاته، ومعاذ الله تعالى أن تقاس بصفات المخلوقين، وأين التراب من رب الأرباب، ولو أوجب كون الرحمة فينا رقة القلب ارتكاب المجاز في الرحمة الثابتة له تعالى لاستحالة اتصافه بما نتصف به فليوجب كون الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر ما نعلمه منها فينا ارتكاب المجاز أيضاً فيها، إذا أثبتت لله تعالى، وما سمعنا أحداً قال بذلك، وما ندري ما الفرق بين هذه وتلك وكلها بمعانيها القائمة فينا يستحيل وصف الله تعالى بها، فإما أن يقال بارتكاب المجاز فيها كلها إذا نسبت إليه عز شأنه أو بتركه كذلك وإثباتها له حقيقة بالمعنى اللائق بشأنه تعالى شأنه، والجهل بحقيقة تلك الحقيقة كالجهل بحقيقة ذاته مما لا يعود منه نقص إليه سبحانه بل ذلك من عزة كماله وكمال عزته، والعجز عن درك الإدراك إدراك، فالقول بالمجاز في بعض والحقيقة في آخر لا أراه في الحقيقة إلا تحكماً بحتاً، بل قد نطق الإمام السكوني في كتابه «التمييز لما للزمخشري من الاعتزال في تفسير كتاب الله العزيز» بأن جعل الرحمة مجازاً نزغة اعتزالية قد حفظ الله تعالى منها سلف المسلمين وأئمة الدين فإنهم أقروا ما ورد على ما ورد وأثبتوا لله تعالى ما أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تصرف فيه بكناية أو مجاز وقالوا لسنا أغير على الله من رسوله لكنهم نزهوا مولاهم عن مشابهة المحدثات، ثم فوضوا إليه سبحانه تعيين ما أراده هو أو نبيه من الصفات المتشابهات” انتهى كلامه باختصار، والسَّكُوني (717 هـ = – 1317 م) الذي ذكره الآلوسي هو: عمر بن محمد بن حمد بن خليل، أبو علي، السكونيّ: مقرئ، من فقهاء المالكية، شبيلي نزل بتونس. له كتب، منها “التمييز لما أودعه الزمخشريّ من الاعتزالات في تفسير الكتاب العزيز” صدّره بمقدمة في التوحيد، و”شرح على منظومة يوسف بن عبد الرحيم الأقصري في التوحيد الأقْصُري” الذي كان من كبار الصوفية في عصره التي أولها:
الحمد للَّه العليّ الصمد … الأول الآخر لا بأمد
ولعمر بن محمد السكونيّ “شرح – خ لأبياتها”.
[25] الموسوعة الفقهية الكويتية (8/83)
[26]وَرَوَى ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَال: يُسَنُّ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ سِرًّا بَيْنَ السُّورَةِ وَالْفَاتِحَةِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ؛ لأِنَّ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى مُتَابَعَةِ الْمُصْحَفِ، وَإِذَا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ جَهْرًا فَلاَ يُؤْتَى بِالْبَسْمَلَةِ بَيْنَ السُّورَةِ وَالْفَاتِحَةِ، لأِنَّهُ لَوْ فَعَل لأَخْفَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَكْتَةً فِي وَسَطِ الْقِرَاءَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَأْثُورًا.
[27]الموسوعة الفقهية الكويتية (8/86).