سلسلة تفسير الفاتحة: “الحمد لله لرب العالمين” للشيخ علي هاني

يواصل الشيخ الأستاذ علي هاني تفسيره لسورة الفاتحة، وفي هذا الجزء يقدم شرحا وتفسيرا لمعاني الحمد وتضمنه للشكر والثناء، والفرق بينه وبين الشكر، وتفصيل القول في العموم والخصوص بينهما، والفرق بين الحمد والمدح، والقول في الصفات المحمودة أنها صفات كمال.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

معنى الحمد:
الحمد لله: هو الثناء على الجميل[1] من نعمة وإحسان وعطاء وتَفضُّل، أو غيره: كاتصاف بصفات الكمال وأفعال عظام، مع 1) التعظيم والإجلال والتفخيم، 2) والرضا والمحبة، 3) والخضوع والإقرار بنعمته مع الرضى بشهادة موارد استعماله. ولا يكون {الحمد} إلا للحَيِّ العالم، ويدل على أن صفاته صفات كمال بلغت الغاية. فالحمد يتضمن أمرين:
أ‌) الشكر لله خالصا بما أنعم على عباده النعم التي لا يحصيها العدد مع التعظيم لله تعالى لأجل ما صدر عنه من الإنعام، والتَّعْظِيمِ له وَالخُضُوعِ من الحامد، والإقراربأنه المنعم المقيت المغني.
ب‌) الثناء عليه سبحانه بما اتصف به من الصفات العلى والأسماء الحسنى والأفعال العظيمة ما علمنا منها وما لم نعلم ، ومنه قول الرجل : حمدت فلاناً، فمعناه: أثنيت عليه، ووصفته بكرم، أو شجاعة، أو حَسَب [2] ، أو حُسْنِ خُلُقٍ وشجاعةٍ ، وعقل.

 
الفرق بين الحمد والشكر:

بين الحمد والشكر عموم وخصوص من وجه [3]:
أ‌) الْحَمْدُ أَعم من الشكر من حيث ما يَقَعَانِ عليه:
– لأَنك تَحْمَدُ الإِنسان عَلَى صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَعَلَى عَطَائِهِ وَلَا تَشْكُرُهُ عَلَى صِفَاتِهِ، فَلَا يُقَالُ شَكَرْتُهُ عَلَى شَجَاعَتِهِ، بخلاف الشكر فهو: أن تشكر أحدا على ما أنعم به عليك [4] ، والدليل على هذا أن العرب تقول: قد حمدت فلاناً على حُسْنِ خُلُقِهِ، وعلى شجاعته، وعلى عقله، ولا يقولون: قد شكرت فلاناً على حسن خلقه وعقله وشجاعته،
– وقد يقع الحمد على ما يقع عليه الشكر، ولا يقع الشكر على ما يقع عليه الحمد. فالحمد أَعَمُّ من الشكر، فهما يتصادقان في الثناء باللسان على الإحسان، ويتفارقان في صدق الحمد فقط على النعت بالعلم مثلا. والشّكر لا يقال إلا في مقابلة نعمة، فكلّ شكر حمد، وليس كل حمد شكرا الله تعالى عبد لا يحمده».

ب‌) الشكر أعم من الحمد من حيث المورد:
الحمد يكون يختص باللسان، والشكر يكون باللسان والفعل والجَنان (القلب)، لكن الحمد أقوى شعبة لأن حقيقته إشاعة النعمة والكشف عنها كما أن كفرانها إخفاؤها وسترها وتلك بالقول أتم؛ لأن الاعتقاد أمر خفي في نفسه، وعمل الجوارح وإن كان ظاهرا إلا أنه يحتمل خلاف ما قصد به، ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «الحمد رأس الشكر ما شكر الله تعالى عبد لا يحمده»وهو وإن كان فيه انقطاع إلا أن له شاهدا يتقوى به وإن كان مثله ـ كما قال الآلوسي ـ وإنما لم يقل “الشكر لله”:
– لأنه لو قال جل شأنه الشكر لله كان ثناء عليه تعالى بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل، والحمد لله ليس كذلك فهو أعلى كعبا وأظهر عبودية. وبيان ذلك أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك، وهذا يشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة، فحينئذ يكون المطلوب الأصلي له وصول النعمة إليه، وهذه درجة لكن ليست هي الدرجة العليا، وأما إذا قال “الحمد لله” ففيه الثناء عليه سبحانه بما اتصف به من الصفات العلى والأسماء الحسنى والأفعال العظيمة ما علمنا منها وما لم نعلم وفيه الشكر لله بما أنعم على عباده النعم التي لا يحصيها العدد، فدل الحمد على كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه – سبحانه – أوصل النعمة إليه، فيكون الإِخلاص أكمل، والثناء أعظم، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت.
– والحمد فيه التعظيم والإجلال والرضا والمحبة والخضوع، ما ليس في الشكر.

 

الفرق بين الحمد والمدح:
هناك فروق بين الحمد والمدح [5] :
– أن المدح يكون للعاقل وغيره (لذوي العلم وغيرهم) سواء للوصف الاختياري أو غير الاختياري، واما الحمد فلا يكون إلا للحَيِّ العاقل (لذي العلم) فيما يكون منه باختياره وهو أخص بالعقلاء والعظماء وأكثر إطلاقا على الله تعالى.
فقد تمدح جماداً أو حيوانا أو إنسانا مما يكون فيه بالتسخير أي بما يكون من قبل الله تعالى، ولكن لا تحمده على ذلك[6] . مثاله أنك قد تقولُ كلاماً في مدح الذهب، وفي مدح اللؤلؤ و في مدح الديك، ولكن لا تحمد على ذلك، وقد تمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه، ولكن لا تحمده على ذلك، مثاله أنك،
وقد تمدح أوتحمد الإنسان على الأمور الاختيارية كالبذل لماله وسخائه وعلمه فالحمد يكون في الثاني وهو الاختياري دون الأول الذي هو غير اختاري، والمدح يكون للعاقل وغيره دون الحمد فهو يكون للعاقل المختار فقط، فالحمد أخصّ من المدح، فكل حمد مدح وليس كل مدح حمدا، جاء في تفسير الرازي: “إن المدحَ قد يحصل للحي ولغير الحي، ألا ترى أن مَنْ رأى لؤلؤة في غاية الحُسْنِ أو ياقوتة في غاية الحسن فإنه قد يمدحها ويستحيل أن يحمدها فثبت أنَّ المدح أَعمُّ من الحمد”.
– يشترط في الحمد أن تكون الصفات المحمودة صفات كمال، بخلاف المدح فقد تكون بصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص ما، وقريب من هذا قول الراغب: “والمدح أكثر ما يقال في الأشياء النافعة التي لم تبلغ الغاية، كالثروة والجلادة، والجود، والحمد يقال في ذلك، وفيما فوقه، فيقال: الجود محمود، والله تعالى محمود، وقل ما يقال: الله ممدوح”.
– أن في الحمد من 1) التعظيم والإجلال والتفخيم 2) والرضا والمحبة 3) والخضوع والإقرار بنعمته ما ليس في المدح، فالحمد إخبار عن محاسن الغير مع المحبة والإجلال والتعظيم، والمدح إخبار عن المحاسن ولذا كان الحمد إخبارا يتضمن إنشاء والمدح خبرا محضا.
– أن الحمد يشترط صدوره عن علم لا ظن والمدح قد يكون عن ظن.
فلأجل ذلك كان اختيار (الحمد) أولى من اختيار (المدح)، فلذلك لم يقل: “المدح لله”، لأن في “الحمد لله” تصريحًا بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة، وأنه حَيٌّ، له الصفات الحسنى والفعل الجميل، فحمدناه على صفاته، وعلى فِعْلِه وإنعامه وفي الحمد إشاعة النعمة والكشف عنها، وفيه الدلالة على أنه سبحانه متصف بصفات الكمال التي بلغت الغاية، من التعظيم والإجلال والرضا والمحبة والخضوع والإقرار بنعمته ما ليس في المدح، ولو قال: (المدح لله) لم يُفِدْ شيئاً من ذلك [7].

 

[1]
أ) اختار كثير من العلماء عدم اشتراط كون الجميل اختياريا فلم يزيدوا في التعريف “الاختيار” ومنهم الإمام الرازي فقال: بعدم الفرق بين كونه صادرا عن المحمود باختياره أولاً، وقرره العلامة الدواني وصدر الأفاضل في حواشي التجريد والمطالع وجزم به المحقق الملا خسر.
ب) زاد كثير من العلماء كلمة “الاختيار” في التعريف فقالوا: “الجميل الصادر عن اختيار” قالوا لأنه لم يسمع الحمد على رشاقة القد وصباحة الخد، وجمال اللؤلؤة، ومنهم الآلوسي حيث قال: “الحق الحقيق بالاتباع أن الحمد اللغوي لا يكون إلا على الأفعال الاختيارية”. واعتُرِضَ زيادة قيد “الاختيار” أنه يستلزم أن لا يحمد الله تعالى على صفاته؛ لأنها ذاتية فلا توصف بالاختيار؛ إذ الاختيار يستلزم إمكان الاتصاف ولذلك، وقد أجاب من قال بالاشتراط الاختيار: أن الحمد على الصفات الذاتية لغوي راجع لما يترتب عليها من الآثار الاختيارية”.
ج) وفرق ابن عاشور بين الحمد لله والحمد لغيره: فقال: “الجواب أن نقول إن شرط الاختياري في حقيقة الحمد عند مثبته لإخراج الصفات غير الاختيارية؛ لأن غير الاختياري فينا ليس من صفات الكمال إذ لا تترتب عليها الآثار الموجبة للحمد فكان شرط الاختيار في حمدنا زيادة في تحقق كمال المحمود، أما عدم الاختيار المختص بالصفات الذاتية الإلهية فإنه ليس عبارة عن نقص في صفاته ولكنه كمال نشأ من وجوب الصفة للذات لقدم الصفة فعدم الاختيار في صفات الله تعالى زيادة في الكمال؛ لأن أمثال تلك الصفات فينا لا تكون واجبة للذات ملازمة لها فكان عدم الاختيار في صفات الله تعالى دليلا على زيادة الكمال وفينا دليلا على النقص، وما كان نقصا فينا باعتبار ما قد يكون كمالا لله تعالى باعتبار آخر مثل عدم الولد فلا حاجة إلى الأجوبة المبنية على التنزيل إما باعتبار الصفة أو باعتبار الموصوف.
[2] من استعمالات الحمد في اللغة: يُقَالُ: أَتيت مَوْضِعَ كَذَا فأَحمدته أَي صَادَفْتُهُ مَحْمُودًا مُوَافَقًا، وَذَلِكَ إِذا رَضِيتَ سُكْنَاهُ أَو مَرْعَاهُ. وأَحْمَدَ الأَرضَ: صَادَفَهَا حَمِيدَةً، أَحْمَدَ الرجلَ إِذا رَضِيَ فِعْلَهُ وَمَذْهَبَهُ وأَحْمَد الرجلُ: فَعَلَ مَا يُحْمد عَلَيْهِ. لْ تَحْمد لِهَذَا الأَمر أَي تَرْضَاهُ؟
[3] ومعنى ذلك أن الحمد أعم من وجه، والشكر أعم من وجه، ويشتركان في وجه.
[4] قَالَ ثَعْلَبٌ: الْحَمْدُ يَكُونُ عَنْ يَدٍ وَعَنْ غَيْرِ يَدٍ، وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلا عَنْ يَدٍ.
[5] هذا التفريق المذكور هو رأي جمهور العلماء، وقال صاحب الكشاف الحمد والمدح أخوان أي مترادفان. ثم اختلف في مراد صاحب الكشاف من ترادفهما:
1) هل هما مترادفان في تقييدهما بالثناء على الجميل الاختياري، وعلى هذا حمله السيد الشريف وهو ظاهر كلام سعدالدين واستدل السيد بأنه صرح بذلك في قوله تعالى (ولكن الله حبب إليكم الإيمان) إذ قال “فإن قلت فإن العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه وهو مدح مقبول عند الناس قلت الذي سوغ ذلك أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة المنظر في الغالب يسفر عن مخبر مرض وأخلاق محمودة على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به وقصر المدح على النعت بأمهات الخير وهي كالفصاحة والشجاعة والعدل والعفة وما يتشعب عنها”
2) أو مترادفان في عدم التقييد بالاختياري أي أن يكون قصد من الترادف إلغاء قيد الاختياري في كليهما، وعلى هذا المحمل حمله المحقق عبد الحكيم السلكوتي في حواشي التفسير.
[6] وأما قوله تعالى: وأما {مقاما محمودا} فمعناه محمودا فيه النبي لشفاعته، فهو وصفُ مجازي. والمحمود من يقوم فيه، أي يحمد أثره فيه، وذلك لغنائه عن أصحاب ذلك المقام، ولذلك فسر المقام المحمود بالشفاعة العظمى، وأما على قول الزمخشري الذي يقول بترادف الحمد والشكر فهو وصف حقيقي ولا مجاز والمعنى المقام الذي يحمده القائم فيه وهو أنت، وكل من رآه وعرفه، وهومطلق في كل مكان يتضمن كرامة والمشهور أنه مقام الشفاعة.
[7] وفرق أيضا بين الحمد والمدح بفروق أخر منها : 1) أن المدح قد يكون منهيا عنه، قال – صلى الله عليه وآله – “احثوا التراب على وجوه المداحين، والحمد مأمور به مطلق”، قال صلى الله عليه وآله: “من لم يحمد الناس لم يحمد الله”، 2) ومنها أن الحمد نقيضه الذم، والمدح نقيضه الهجاء.