سلسلة تربية الأولاد في الإسلام| المحاضرة الأربعون| حق بر الوالدين (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا، ونبينا محمدٍ، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا، وزدنا علماً ينفعنا.

وبعد:

كنا تكلمنا في المحاضرة الماضية عن حق بر الوالدين، وهو الحق الأهم في العلاقات الاجتماعية؛ لأنه يتعلق بالوالدين؛ فهما صاحبا الحق الأكبر على الأولاد. يقول الله تعالى: ﴿أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير﴾ [لقمان 14]، فالشكر مطلوبٌ لله ثم للوالدين. وقال سبحانه أيضاً: ﴿واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحساناً﴾ [النساء 26]، عطفت الآية الإشراك بالله على الإحسان للوالدين؛ نظراً لأهمية حق الوالدين. 

لقد ذكر ربنا سبحانه صورةً فيها شيءٌ من المشقة على الولد في علاقتة مع والديه، وتشير الصورة بأنه إذا وجب البر فيها وتحقق، فغيرها أولى بالتحقُّقِ، فقال: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء 23]، ربنا قال: ﴿عندك﴾ أي: أنت أيها الولد من يتولى رعايتهما، والاهتمام بهما، وربما تنفق عليهما؛ أي: إن الوالدين محتاجين لولدهما؛ وهذا قد يُشْعِرُ الولدَ بشيءٍ من الثِّقَلِ الذي ربما يقوده لشيءٍ من التقصير في جانب البر لوالديه أحياناً. 

الكِبَرُ سنٌّ، وحالةٌ قد تعتري الوالدين؛ فيصير لهما عقليةٌ خاصةٌ تختلف عن عقلية الولد؛ لهذا لابد من مراعاتهما عند وصولهما لهذا السن. 

صورة توضيحية: قد يتخلى الوالد عن مسؤولياته تجاه أولاده فلا يتحمل أي شيءٍ تجاههم؛ فهو يهجرهم، ولا يتفقد حوائجهم؛ مع أنه يملك القوة البدنية، والمالية، وأولاده بأمسِّ الحاجة لمن يمدُّ لهم يد المساعدة، وتتولى الأم هي تدبير شؤون أولادها.. فلو تغير الحال فانقلب حال الأب من القوة، للضعف ﴿الكبر﴾، ومن الغنى للفقر، وتغير حال أولاده من الفقر والضعف، والحاجة للقوة والغنى، واحتاج الأب لمساعدة أولاده.. فهل يجب على الأولاد برُّ أبيهم وهو الذي تَنَكَّرَ لهم عندما كانوا في مسيس الحاجة إليه؟

الجواب: يجب عليهم تمام البر، لأن هذا أمرٌ من الحق سبحانه عندما قال: ﴿وبالوالدين إحساناً﴾، فالله هو الذي أوجب على الأولاد بر والديهم، وفرض هذا عليهم؛ أحسن الوالدان أم أساءا، قاما بواجباتهم أم قصَّرَا. 

هل يوجد منهج يحقق جانب بر الوالدين أفضل من دين الله؟ فالبر مقرون بطاعة الله ورضاه؛ فالإسلام لايقبل أن يَبَرَّ الولد أمه يوماً في السنة، أو أن يقدم لها هدية، أو زيارةً سنويةً، لأننا ننطلق في بر الوالدين من منطلق، ودافع الإيمان بالله تعالى، وتحقيق مرضاة الله يغذيه في كل وقت. 

أي عقوقٍ فوق أن يكون لأمٍّ أكثرَ من ولدٍ، ولاتجد واحداً  يهتم بها، ويرعى شؤونها؟!  

ماذا تريد الأم من البر أعلى مما أعطاها الله في كتابه، وسنة رسوله؟

هل يوجد أمٌّ في الشرق أو الغرب تحلُم بأكثر من البر الذي فرضه الله على الولد تجاه والديه؟ 

لو سألنا كتاب الله عزوجل عن بعض حقوق وواجبات الأولاد تجاه والديهم لأجاب: ألاَّ يقولَ الولدُ لهما كلمةً مؤلفة من حرفين ﴿أف﴾، وهي كلمةٌ تدل على التضجُّر، فالله لم يسمح أن يقول الولد لوالديه: أفٍّ؛ وإذا حرَّمَ التأفُّفَ؛ فقد حرَّمَ مايفوق هذا من أي نوعٍ من أنواع الأذى.

 هل يكفي ألا يتأفَّفَ الولد في وجه والديه، وألا يسبب لهما الإزعاج؟

الجواب: لا؛ لأن الله لمَّا حرَّمَ التأفُّفَ أمر الولد بأن يقول لوالديه حُسْنَاً فقال له: ﴿وقل لهما قولاً كريماً﴾

يجب على الوالدين تعويد أبنائهم، وتعليمهم الكلمة الطيبة، والمجاملة في الأقوال والأفعال؛ وتقصير الوالدين بهذا الأمر ينعكس بتقصير الأولاد في حق والديهم. 

شدة الوالدين وقسوتهم مع أولادهم تورث جفاءً بينهما، وتجفِّ العلاقة بينهما، وتصبح باردةً خاليةً من الدفء؛ فلا يستغرب الأب فقده الكلمة الطيبة من ولده، واللين عندما يصير محتاجاً لهذه الطِّيبَةِ، واللين، والرحمة؛ لأنه المتسبب بها. 

هل من المعقول أن نسمع أن أمَّاً تعيش عند ابنها تخاف منه؟!!

لقد ذكروا من معاني بر الوالدين أنه: لايجوز أن يعاقِبَ – بالضرب- الأب أولاده أمام والديه، ولو تدخلت الجدة في منع ولدها من ضرب حفيدها، إكراما لها؛ فعلى الابن أن ينصاع لطلب والدته؛ فيعطي الأب أبناءه درساً في البر، وتعظيم طلب الوالدين من أبنائهم، ويعرِّفُهُم قيمة الأب، والأم بطريقة عملية. 

قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء 24]، غَيِّبْ كل مَظْهَرٍ من مظاهر القوة أمام والديك؛ فإذا كنت غنياً اجلس أمامهما جِلْسَةَ الفقير، وإذا كنت قوياً أو صاحبَ منزلة بين الناس؛ اجلس أمامهما جِلْسَةَ الضعيف الذي لامنزلة له، وإذا كنت عالماً اجلس بين أيديهما كجاهل يطلب العلم فينصحك أبوك، أو أمك؛ فتستمع لنصيحتهم بكليتك… 

قد يروي الأبُ قصةً ما، ويكررها مراتٍ كثيرةٍ؛ فعلى الولد أن يصغي سمعه لهذه القصة، كأنه يسمعها أول مرة، وألا يتضجر من تكرار والده لها . 

رفع الصوت بوجه الوالدين مظهرٌ من مظاهر العقوق، وتحديدُ النظر بالوالدين من العقوق أيضاً. 

انظر إلى خطاب سيدنا إبراهيم عليه السلام مع والده – الذي كان يعبد الأصنام – كيف كان يفيضُ رحمةً وأدباً: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) [إبراهيم].

قد يلين الولد لوالديه لا رغبةً ببرهما، وبما عند الله من الأجر والرضا؛ بل بما عند الوالدين من مال يملكانه؛ فهذا لايُعَدُّ براً بل البر أن تفعله، وأنت ترجو فيه رضا الله ورحمة والديك، ورد جزءٍ من الجميل الذي قدماه لك ﴿وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان﴾ [الرحمن].

ربنا يقول: ﴿وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً﴾، فمن البر الدعاء للوالدين بعد وفاتهما. 

ويقول أيضاً: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف 15]، فالوصية ليس لها بنود بل هو بندٌ واحدٌ هو الإحسان إليهما. 

ربنا يقول: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت 8]، لا تطعهما بالشرك، لكن لابد من صحبتهما بالمعروف. 

 جاء رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فقال: جِئتُ أُبَايِعُك علَى الهِجرةِ، وتركتُ أبويَّ يبكِيانِ فقال : “ارجِع إليهِما فأضْحِكْهُما كما أبكيْتَهُما”[1].

 طلحة بن معاوية السلمي قال: أتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقلتُ: يا رسولَ اللهِ إنِّي أُريدُ الجهادَ في سبيلِ اللهِ قال أمُّك حيَّةٌ؟ قلتُ: نعم، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “الزَمْ رِجلَها فثمَّ الجنَّةُ”[2].

اللهم وفقنا لمحابك، وألهمنا مراشد الصواب، والهداية. 

وصلى الله على سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم .    

_____________________

[1]: أبو داوود 2528، النسائي 4163.

[2]: الطبراني 8162.