سلسلة تربية الأولاد في الإسلام| المحاضرة التاسعة والثلاثون| حق بر الوالدين(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمدٍ، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا، وزدنا علماً ينفعنا.

وبعد:

تعوَّدْنا في هذه السلسلة أن ننتقل من مسألة تربوية إلى أخرى، وقد ناقشنا المسؤولية الدينية، والمسؤولية العِلْمية، وقد وصلنا إلى المسؤولية الاجتماعية، واليوم سنبدأ الحديث عن الحق الأول من الحقوق الاجتماعية التي ينبغي أن نربي عليها أبنائنا؛ وهو حق برِّ الوالدين، والتحذير من عقوق الآباء، والأمهات.

بر الوالدين من الفرائض التي أمر الله بها، والعقوق من الكبائر التي نهى الله عنها. 

قضية برِّ الوالدين قضية هامةٌ؛ فكثير من البيوت نلمح فيها مشكلةَ العقوق للوالدين. 

كل الآباء يرغبون، ويطمحون بأن يكون أولادهم بَرَرَةً لكن الواقع خلافُ ذلك.

سنتناول قضية بر الولادين من عدة زوايا، حيث سنتحدث عن أهمية البر وأدلة وجوبه، وعن العقوق وآثاره، وعن فوائد البر، وآفات العقوق، وعن أسباب البر، وأسباب العقوق، وكيف يمكن أن نرقى بأولادنا لمستوى بر الوالدين.

سنبدأ بالزاوية الأولى:

 وجوب بر الوالدين وأهميته: علينا ونحن نتحدث عن هذه الزاوية أن نهتم بأمور منها:

  1. لابد أن نهتم باستثارة قلوب الأولاد؛ لغرس الشعور بالآخر، واحترام ماقدمه الآخرون من جهدٍ، وتعب فيجب أن نعلِّم الطفل الشعور بآلام الآخرين، كما يشعر هو بآلام نفسه، وأن يعظِّم جهد الآخرين كما يحب أن يقدِّرَ الآخرون جهوده. 
  2. إن أول ألم يجب أن يشعر به الولد هو: ألم الوالدين، وجهدهم.. أن يَعْلَم كم تعب والداه به حتى كبر، وغدا يافعاً. 
  3. كثير من الأبناء لايدركون كم تعب الآباء، وكم بذلوا من جهد تجاه أبنائهم، حتى يصيروا آباءً؛ عندها يدركون هذا الجهد، ويقدرون قدر هذا البذل بما لايدع مجالاً للشكِّ، ولكن يأتي هذا في وقت متأخرٍ؛ وهذا يعتبر مشكلةً كبيرةً ألاَّ يُدْرِكَ الابن فضل والديه حتى يصير أباً، أو تصير الفتاة أمَّاً؛ لهذا ينبغي تعليمُ الأولاد الشعور بجهود الآخرين، وآلامهم، وتقديرها قدرها؛ ليكون هذا التقدير في وقته، ومكانه المناسب لا بعد فوات الآوان. 
  4. إن وجود خُلُقِ الشعور بالآخرين يبدأ من البيت، والأسرة؛ لهذا يجب أن يكون هذا الخُلق موجوداً بين الزوج وزوجته أولاً، وبين الأولاد وآبائهم ثانياً؛ لأن وجود مثل هذه المشاعر في الأسرة تجعلها تسري في كيان الأبناء من حيث لايشعرون.
  5. التعليقات التي تصدر من الوالدين تجاه أولادهم إن كانت إيجابيةً فإنها تُنشئ رحمةً، وإن كانت سلبيةً فإنها تُنشئ قسوةً.. “لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلت عليه السيدة فاطمة رضي الله عنها قام إليها فأخذ بيدها فقبَّلَهَا وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته، وأجلسته مجلسها”[1]، هكذا كان يفعل رسول الله مع ابنته، وهكذا كانت ابنته تفعل معه؛ فكم هو قدْر الاحترام الراقي بين الأب وابنته،  وكم غرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلب ابنته من معاني الرأفة والاحترام ؟ كان رسول الله يُلاعب الحسن والحسين وهما صغيران، وينشر بينهما الأُلْفَةَ والمحبة والرحمة.. كم حجم الحب الذي سيَعْلَقُ بقلوبهم في المستقبل؟ وكم هو أثر هذا الحب على العلاقات الاجتماعية مع الآخرين؟
  6. إن تعويد الأولاد القيام بحقوق الآخرين وتقديرها منذ الصغر؛ يؤثر جداً في تربيتهم، وتعاملهم مع الآخرين عند الكبر.. كم هو مفيد في تربية الأولاد أن يأخذ الأب أبناءه لزيارة جدهم وجدتهم ليشاهدوا بأعينهم حجم المودة والرحمة بين والدهم وأجدادهم؛ فيتعلم الأولاد أخلاق الوالد؛ فيعاملون والدِيْهِم بنفس المعاملة.. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بروا آباءكم تبركم أبناؤكم”[2]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً: “البِرُّ لايبلى، والإثم لاينسى، والدَّيَّان لاينام فكن كما شئت كما تَدِينُ تُدَان”[3]
  7. إن قسوة الأب مع أهله أو مع أهل زوجته، وقسوة الأم مع أهل زوجها أو مع أهلها؛ يؤثر جداً في تربية الأبناء؛ لهذا لا نكون مخطئين لو قلنا إن كثيراً من أسباب العقوق ترجع للوالدَيْنِ أنفسِهم.  
  8. في حال نشوب خلافٍ ما بين الأب وولده، أو بين الولد وأمه؛ لم ينظر الإسلام لتحديد من هو المخطئ؛ لأن الابن مكلَّفٌ بالإحسان إلى والديه مهما كان، وبِغَضِّ النظر عن من هو المصيب ومن هو المخطئ؛ فالله عزو جل قال: ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغنَّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريماً﴾ [الإسراء 23]، ولم يقل الله عزوجل: وبالوالدين عدلاً، مع أن الله عزوجل قال في آيات أخرى يحث على العدل فقال: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ [النحل 90]، لكنا نجد الباري سبحانه يفرد الإحسان للوالدين ليقول : ﴿وبالولادين إحساناً﴾ [الإسراء 23]؛ لأنا لو أردنا إقامة ميزان العدل بين الأب، وابنه لاحتجنا إلى إقامة حَكَمٍ بينهما؛ لمعرفة المصيب من المخطئ، وهذا يؤثر كثيراً في قلوب الوالدين. فالحق الذي لاحَيْدَةَ عنه أن نربِّيَ الولد على الإحسان لوالديه؛ ابتغاء وجه الله وتحقيق مرضاته؛ فنربي الولد ونقول له، ونعلمه: أنْ هذا أبوك وهذه أمك، والله أمر بالإحسان إليهما. 
  9. الحق سبحانه وتعالى جعل قضية بر الوالدين قضيةً دينيةً فقال: ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغنَّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريماً﴾ [الإسراء 23].
  10. حق الله تعالى على عباده مطلقٌ؛ فالله أمرنا ألاّ نعبد غيره، ولا حاجة لنسأل لم أمر الله بهذا؟ وكذلك الحال بالنسبة للإحسان للوالدين فعلينا الإحسان إليهم مطلقاً من غير سؤال عن عدل، أو غيره. 
  11. لو نظرنا لما يبذله الحريصون على بر الولادين من جهودٍ؛ لوجدنا أنهم ابتكروا و أنشأوا للأم عيداً ومهرجانات، وبرامج إذاعية،ولقاءات..،  ولو نظرنا لنتائج هذه الجهود لوجدناها تافهةً لاتوازي الجهود المبذولة: فقد صار الولد يزور أمه مرة في السنة في دار العجزة؛ ليقدم لها هديةً في هذا اليوم، ثم لايلبث أن يهجرها بقية العام.  أما لو نظرنا للإسلام فإنه أمر ببرِّ الوالدين ببعض الآيات، وبعض الأحاديث، ولكن النتائج كانت مبهرةً في تحقيق معاني البر؛ لأن الإسلام أمر ببر الوالدين من منطلق تحقيق مرضاة الله عزوجل؛ لهذا ورد ت في كتب السير قَصَص عجيبةٌ للبر؛ فهذا (رجل يحمل أمَّه على ظهره من خراسان إلى مكة حاجَّاً بها ثم يَسْأَل: هل أديت بِرَّها؟ فيُجَابُ: لا ما أديت لها طلْقَةً أثناء المخاض).  (وسُئِلَ الحسن البصري لِمَ لاتأكل مع أمك؟ فقال: أخشى أن تسبق عينها إلى لقمة تشتهيها فآكلها). 
  12. عندما نقوم بتربية الوازع الديني، وترسيخه في نفوس الأبناء؛ ينشأ الولد على تقدير والديه؛ لهذا أقصر الطرق لتحقيق بر الوالدين هو: التربية على تعظيم الله عزوجل، وربط بر الوالدين بتعظيمه سبحانه، وتحقيق رضاه. ولو نظرنا لخطاب سيدنا إبراهيم عليه السلام مع والده الذي كان يعبد الأصنام، ويصنعها، وكيف كان خطابه يُشْرِقُ أدباً واحتراماً معه، وقد بيَّنَ خطاب الله هذا المعنى عندما قال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا[مريم ].

اللهم وفقنا لمحابك، وألهمنا مراشد الصواب، والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.

_____________

[1]: البخاري من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها 3762.

[2]: الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه 7340.

[3]: أخرجه أحمد في الزهد من حديث أبي الدرداء برقم (773).