سلسلة تربية الأولاد في الإسلام| المحاضرة الثامنة والثلاثون| تربية الأولاد على القيام بالحقوق الاجتماعية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا، ونبينا محمدٍ، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا، وزدنا علماً ينفعنا.

وبعد:

سينتظم حديثنا اليوم في المحور الثاني من محاور المسؤولية الاجتماعية، وهو من واجبات المربِّين تجاه أبنائهم، وسنتكلم في محور الحقوق الاجتماعية.

عندما نتكلم عن الحقوق الاجتماعية لابد أن نقف على المقصود من الحق الذي هو عبارةٌ عن: التزامٍ واجبٍ نحو الآخرين.

لو نظرنا للحقوق التي أوجبها الإسلام على الإنسان لوجدناها متنوعةً ومتفاضلةً، فهناك حقوق الوالدين، وحق الجار، وحق المسلم، وحق الطريق، وحق الأرحام، وغير ذلك من الحقوق….

وقد بين الله عزوجل بعض هذه الحقوق عندما قال: ﴿واعبدوا الله ولاتشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجُنب والصاحب بالجَنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لايحب من كان مختالاً فخوراً﴾ [النساء 36].

وقال تعالى أيضاً: ﴿وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل﴾ [الإسراء 26].  

عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: “آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدَّرْداء، فرأى أمَّ الدَّرْداء مُتَبَذِّلَةً، فقال لها: ما شأنُك؟ فقالتْ: أخوكَ أبو الدرداء ليس له حاجةٌ في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنعَ له طعامًا، فقال له: كُلْ، فإني صائمٌ، قال: ما أنا بآكل حتى تأكُلَ، فأكل، فلما كان الليلُ ذهب أبو الدرداء يقومُ، فقال: نم، فنام، ثمَّ ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال: سلمانُ: قُم الآن، فصلَّيَا، فقال له سلمانُ: إنَّ لربِّكَ عليك حقًّا، وإنَّ لِنَفسكَ عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرَ ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ سلمانُ”[1].

مهمة: نلحظ عدم التفاعل من أبنائنا عند الحديث عن قضية الحقوق، بل نرى التقصير منهم في أداء هذه الحقوق؛ فلايعطون الطريق حقه، ولا الجار حقه، ولا الوالدين حقوقهم.. والسبب وراء ذلك هو التأثر بالمفاهيم الخاطئة لمعاني الحرية، وماشابهها.

 ولو دققنا النظر في هذه المصطلحات؛ لرأيناها كالسراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً؛ فأبناؤنا يرون حق الجار، وحق المسلم عبارةً عن قيود، ويرون أداء هذه الحقوق ماهو إلا جزء من انتقاص الحرية التي يبحثون عنها، وكما يريدون فهمها، أو كما يريد أعداء المسلمين من شبابنا أن يفهموها.

إن الحرية التي يريد أعداؤنا أن ترسخ في أذهان الناشئة من المسلمين هي التبرؤ من كل قيدٍ، ومن كل ضابط؛ بل يريدون من أبنائنا التفلُّتَ من كل قيود الدِّين؛ فتارةً يتحدثون عن حقوق الطفل، ويريدون من هذا الحق ترسيخ معاني الحرية الجنسية في نفوس الناشئة، وتارة يتحدثون عن حقوق المرأة، ولايريدون من المطالبة بهذا الحق سوى أن تتفلت المرأة من قيود الدين التي فرضها الله عزوجل على المرأة. 

أعداؤنا يعرضون حقوقاً ظاهرها يخالف المراد منها؛ فالطفل له مساحةٌ من الحرية ولكن بنفس الوقت يجب أن نربيه على أداء الحقوق، والقيام بالواجبات. ولو دققنا النظر لرأينا أن القيام بالحقوق هو فعلاً فيه انتقاص من الحرية الشخصية  المطلَقَةِ للإنسان؛ فعندما نقول للأولاد برُّ الوالدين، وطاعتهم، والإحسان إليهم واجبٌ عليكم؛ يستلزم هذا الانتقاصَ من حريتهم.

فالحرية عند المسلمين تعني: القيامَ بالحقوقِ والوقوفَ عند الحدود. 

مثال توضيحي: رجل يجلس في بستان وحده، وليس معه أحد يراه، فإنه ربما يجلس على الأرض، وربما يسْتَلْقِ على التراب، ويأكل بطريقة غير لائقة …ولكن لو جاءه ضيف مثلاً فإنه سيترك ما كان يفعله، ويلتزم ببعض الضوابط أمام الضيف.. أليس هذا الذي فعله الرجل أمام ضيفه يعدُّ انتقاصاً من حريته المطلقة؟ أليس هذا تقيداً له ببعض القيود؟ 

لابد أن نعلم أنه كلما كان المجتمع أرقى؛ كلما انتُقِصَت الحرية المطلقة لأفراده. فكثرة الآداب، وأداء الالتزامات، والحقوق؛ هي دليل رُقي المجتمع لاتخلُّفَه.

لقد كان مجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرقى المجتمعات على مستوى الآداب؛ فكان الصحابة يجلسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّما على رؤوسهم الطير، وإذا تكلم أنصت الجميع لحديثه لايقاطعه أحدٌ. 

إذاً عندما نطالب أنفسنا بأداء الحقوق حقيقةً؛ نحن نطالب أنفسنا بالرقي، وكلما كنا أكثر التزاماً بأداء الحقوق؛ كلما كنا إلى الكمال والرقي أقرب. 

نخطئ عندما نظن أن قيمة الإنسان هي ما يمارسه من حريات، بينما قيمته في ما يؤديه من حقوقٍ، والتزامات.

يجب أن نبدأ مسيرة الإصلاح لأبنائنا، بأداء الحقوق؛ من مبدأ تصحيح ما عندهم من أفكارٍ وأفهامٍ خاطئة لبعض المصطلحات، وأن نربط هذا بمعاني العبودية لله عزوجل. فالناس عبيد لسيدٍ واحدٍ يفعلون مايأمرهم، ويتركون ما ينهاهم، وأن وصف عبوديتنا لله لايمكن الفِكَاك عنه؛ بل هو ملازم للإنسان وإذا كنتُ عبداً كيف أكون حراً أفعل ما أشاء، وأريد؟

وحُكِيَ “أن بِشْرَاً الحافي (بشر بن الحارث) كان في زمن لهوه في داره، وعنده رفقاؤه يشربون ويطيبون، فاجتاز بهم رجل من الصالحين، فدق الباب، فخرجت إليه جارية، فقال: صاحب هذه الدار حرٌّ أو عبد؟ فقالت: بل حر، فقال: صدقت لو كان عبداً لاستعمل أدب العبودية، وترك اللهو والطرب، فسمع بشرٌ محاورتهما، فسارع إلى الباب، حافياً حاسراً، وقد ولى الرجل، فقال للجارية: ويحك، من كلمك على الباب؟ فأخبرته بما جرى، فقال: أي ناحية أخذ الرجل؟ فقالت: كذا فتبعه بشر حتى لحقه، فقال له: يا سيدي، أنت الذي وقفت بالباب، وخاطبت الجارية؟ قال: نعم، قال: أعد علي الكلام، فأعاده عليه، فمرغ بشر خديه على الأرض، وقال: بل عبد عبد، ثم هامَ على وجهه حافياً حاسراً حتى عُرِفَ بالحَفَاء، فقيل له: لم لا تلبس نعلاً؟ قال: لأني ما صالحني مولاي إلا وأنا حافٍ، فلا أزول عن هذه الحالة حتى الممات”

عندما تذوَّقَ المسلمون معاني العبودية لله عزوجل؛ صاروا أحراراً عن حبِّ المال، والشهوات، وعن كل ما يسترقُّ قلوبهم. 

وهذا ربعي بن عامر رضي الله عنه يذهب لملاقاة رستم قائد الفرس فيسأله رستم “مالذي حملكم على المجيء إلينا؟ فقال له: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور السلطان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة” لقد كانت معاني العبودية لله عزوجل تتفجر في كل ذرة من ذرات سيدنا ربعي بن عامر.

فمن منطلق التعريف الصحيح للحرية، وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة نستطيع البدء مع أبنائنا ببيان الحقوق الاجتماعية واجبةِ الأداء، وكذلك أربط هذا أولاً، واخيراً بمنطلق العبودية، والإيمان بالله عزوجل. الله عزوجل قبل ذِكْرِ الحقوق بيَّنَ الربط بين التوحيد، وأداء هذه الحقوق عندما قال: ﴿واعبدوا الله، ولاتشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً﴾ [النساء 36]؛ فجاء بيان حقِّ الوالدين بعد توحيد الله تعالى، وقال تعالى أيضاً: ﴿وقضى ربك الا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً﴾ [الإسراء 23].

كم هو كبيرٌالفرقُ بين ولدٍ يقبِّلُ يدَ والديه؛ كعادةٍ اجتماعيةٍ، وبين من يقبِّلُ يد والديه، وهو يرى هذا نوعاً من البرِّ لهم، وجزءاً من تحقيق مرضاة الله عزوجل؟

ولايغيب عنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبين حق الجار، وحق الضيف: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخرفلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر  فليكرم ضيفه”[2]

اللهم وفقنا لمحابِّكَ، وألهمنا مَراشِد الصوابِ، والهداية.

وصلى الله على سيدنا، ونبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.

___________

[1]: البخاري 1251،والترمذي 2413.

[2]: البخاري من حديث أبي هريرة 6018.