سلسلة تربية الأولاد في الإسلام| المحاضرة السابعة والثلاثون| تربية الأولاد على مكارم الأخلاق

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأَرْشَد أمرنا، وزدنا علماً ينفعنا.

وبعد:

اليوم وصلنا للمرحلة الثانية في الحديث عن التربية الاجتماعية ، ونريد أن نتكلم  عن المحور الأول في التربية الاجتماعية ألا وهو: قضية الأخلاق.

من المعلوم أننا لو أردنا بناء مجتمعٍ فإن أساس العلاقة في هذا المجتمع هي شبكة الأخلاق، وكلما كانت الأمة أرقى خُلقياً؛ كلَّما كانت أرقى من حيث التماسك، والإلفة والمحبة، وماشابه.

ينبغي للأم أن تُرْضِع وليدها الأخلاق والمبادئ، كما أرضعته اللَّبن؛ لتختلط هذه المبادئ مع لحمه ودمه؛ فمن «شَبَّ على شيءٍ شاب عليه».

لابد أن نعلم أنَّ الطفل يتشرّب الأخلاق من البيئة التي يعيش فيها؛ لأن الطفل سريع التأثُّر والتقليد، والمحاكاة للوالدين، وخصوصاً الأم؛ فهي منبع الأخلاق، ويقضي الطفل معها أكثر أوقاته؛ فكلما كانت الأم أرقى خُلقياً؛ انسحب الرُّقِي على أولادها فهو يسري بهم شيئاً فشيئاً؛ فالأولاد يتشربون أخلاق والديهم شاؤوا أم أَبَو.

مشكلة: قد يحدث تناقضٌ في الأسرة نتيجة تضارب الأفكار بين الوالدين، والولد هو ضحية هذا الاختلاف. فالأب مثلاً يعلِّمُ أولاده مكارم الاخلاق؛ فتأتي الأم وتخالف ما يعلِّمُه الوالد. وقد يكون العكس مع الأم، فأحد الوالدين يعلِّمُ أولاده الصدق، ويأتي الآخرليعلِّمَه الكذب؛ فيضيع الابن بين والديه أيُّهما على صواب؟.. فيضْعُفُ تأثير الوالدين على ابنهم بسبب هذا التناقض.

مهمة: الأخلاق ليست ثوباً نَلْبَسُه نهاراً، ونخلعه ليلاً؛ بل الأخلاق: مَلَكَاتٌ داخلية مترسِّخة تشكل بذوراً تَنْتُجُ عنها الأخلاق الحميدة دون تكلف؛ فالأخلاق تنشأ عن الإنسان بيسرٍ وسهولةٍ دون تكلف. 

سؤال: لو نشأ الولد على مساوئ الأخلاق، هل يمكن أن نغيِّرَهُ لمحاسنها؟

الجواب: نعم يمكن ذلك، فمكارم الأخلاق يمكن اكتسابها بالتدريب والتعلُّم، فقد روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ» [1].                                                  
وقال أيضاً: «إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يَفْخر أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ» [2]. لقد أمر رسول الله بالتواضع، وهو خلق مكتسب. و يجب أن نعلم أن قضية الأخلاق لا تُكْتَسَبُ بسهولة، كما أنها لاتنتزع بسهولة؛ لهذا يحتاج المربُّون لكثيرِ الصَّبر؛ لاستئصال الأخلاق المرذولة، واستبدالها بغيرها محمودةً. ولو نظرنا لطريقة رسول الله في معالجة سيء الأخلاق؛ لرأينا منهجاً رائقاً يعالج فيه رسول الله المشكلة من جذورها؛ فقد جاء غلامٌ شابٌّ إلى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقال له: «يا نبيَّ اللهِ أتأذنُ لي في الزنا؟ فصاح الناسُ به، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قَرِّبوهُ، ادْنُ فدنا حتى جلس بين يديْهِ، فقال النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ: أتحبُّه لأُمِّكَ فقال: لا جعلني اللهُ فداك، قال: كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه لِأمَّهاتِهم، أتحبُّه لابنتِك؟ قال: لا، جعلني اللهُ فداك قال: كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه لبناتِهم، أتحبُّه لأختِك؟ حتى ذكر العمَّةَ والخالةَ، وهو يقولُ في كلِّ واحدٍ: لا جعلني اللهُ فداك، وهو صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقولُ: كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه؛ فوضع رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يدَه على صدرِه، وقال: اللهمَّ طهِّرْ قلبَه واغفر ذنبَه وحصِّنْ فَرْجَه فلم يكن شيءٌ أبغضَ إليه منه» [3]

هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لايمتلك الغَيْرة على أعراض المسلمين؟ حاشى، وكلاَّ؛ ولكن رسول الله يعلمنا: أنه لوزجره ووبَّخَهُ على طلبه فِعْلَ الحرام؛ فإنه سيخفي ما يختلج في صدره، ويبحث له عن متنفس في بيئة مناسبة. نستفيد من هذا الحديث شيئاً مهماً يتعلق بتربية الأولاد وهو: أن ضَرْبَ الولد على خُلُقٍ سيءٍ يرتكبه؛ لايكفي لتغيير هذا الخلق.

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية» ؛ عندما عيّر رجلاً بأمه. لقد نبَّه رسول الله أبا ذر لخطورة كلمته، وأنها من رواسب الجاهلية. 

وقال للأشج عبد قيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» [4].

لقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأشج؛ فعزّز بهذا الثناء الجانب الإيجابي في نفسه، وربَّى كل جماعته التي جاءت معه على هذا الخلق. 

«وهذا رجلٌ شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، غَضِبْتَ وَقُمْتَ، قَالَ: إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِلَّا أَعَزَّ اللهُ بِهَا نَصْرَهُ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ، يُرِيدُ بِهَا صِلَةً، إِلَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ، يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً، إِلَّا زَادَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً» [5].

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً: «مازاد اللهُ عبداً بعفوٍ إلا عزَّاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله» [6]. من المفاهيم الراسخة في أذهان الناس أن العفو مظهٌر من مظاهر الضعف؛ فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم  بكلامه هذا، أن يصحح الخطأ في المفهوم كما قال أيضاً: «ليس الشديد بالصُّرَعَة؛ ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».

وسائل التربية على مكارم الأخلاق:

1- تعليم الطفل الآياتِ، والأحاديثَ الدالة على مكارم الأخلاق كقول الله تعالى: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ [القلم 4]، وقوله تعالى: ﴿فبما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فظَّاً غليظ القلب لانفضُّوا من حولك فاعْفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر﴾ [آل عمران 159]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً» [7]، وأنقل للولد أيضاً ما نُقل عن سلف الأمة من مكارم الأخلاق، وأتوج هذا النقل بقَصَصٍ من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وسلف الأمة. 

2- تهيئة البيئة الصالحة التي يكتسب الأولاد من خلالها الخُلُقَ المحمود؛ فترك ذلك تفريط في تربيتهم. 

3- التعليق على المواقف التي يراها الطفل، سواء كانت إيجابيةً أم سلبية. 

ماهي الأخلاق التي ينبغي أن نربي عليها أبناءنا؟

أ- خلق الإيثار، ومحبة الآخرين: قال تعالى: ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصَاصة ومن يُوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون﴾ [الحشر 9]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [8]، فنعلِّم ونرسِّخُ في نفوس الأبناء معاني الإيثار، ونستأصل من نفوسهم الأثرة وحبَّ الذات والأنانية.

ب- خلق التعاون مع الناس: مشاركة الناس له تأثيرٌ اجتماعي كبير قال تعالى: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان﴾ [المائدة 2]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار» [9]. لابد من ترسيخ هذه المعاني في نفس الطفل، وتعويده عليها، ونذكرها دائماً له، نَذْكُرُ للأولاد الحديث الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان تاجرٌ يُدَايِنُ الناسَ فإذا رأى مُعسِراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه؛ لعلَّ اللهَ أن يتجاوز عنا؛ فتجاوز الله عنه» [10].

ج- خلق التواضع: هذاالخلق من أهم الاخلاق في التربية الاجتماعية مع الانتباه للفرق بين التواضع، والذِّلَة فالتواضع محمودٌ دائماً، والذلة مذمومة إلا في مكانها.

د- خلق الرحمة، والتراحم، والرفق: فلايكون عنيفاً، ولاقاسياً؛ بل إنساناً قوياً في رحمة؛ فقوة الإنسان في تواضعه، ولينه.

هـ- خلق الأمانة، والمسؤولية: الأمانة التي لاتقتصر على حفظ المتاع، بل تتجاوز ذلك لتصل لأمانة غضِّ البصر، وأمانة حفظ الفرج، وأمانة المحافظة على مال الجار وعِرْضه…

و- خلق التقوى: وهو أن يربط الإنسان جميع أفعاله بالله تبارك وتعالى، فالتقوى هي أن تجعل بينك وبين معاصي الله حاجزاً.

مهمة: ينبغي أن نغرس في نفس الطفل أن أساس الكمال هو الأخلاق الفاضلة، وأن النجاح في الدراسة لايعني الكمال؛ بل هو جزء الكمال، والنجاح يفتقر دائماً للأخلاق، وبدونه لافائدة منه؛ بل ربما يرجع بالوبال على الشخص نفسه أولاً، وعلى المجتمع ثانياً.

اللهم وفقنا لمحابِّك، وألهمنا مراشد الصواب، والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

___________

[1]: الخطيب البغدادي في تاريخه من حديث أبي هريرة (127/9). 

[2]: مسلم من حديث عِياض بن حِمار رضي الله عنه 2865.

[3]: تخريج أحاديث الإحياء للحافظ العراقي من حديث أبي أمامة الباهلي وقال: رواه أحمد بإسناد جيد رجاله رجال الصحيح (411/2).

[4]: مسلم من حديث ابن عباس 543.

[5]: أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 9624.

[6]: مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة 2590.

[7]: الترمذي من حديث جابر بن عبد الله 2018.  

[8]: البخاري من حديث أنس بن مالك 13.

[9]: الترمذي من حديث ابن عمر 2167.

[10]: البخاري من حديث أبي هريرة 1972.