سلسلة تربية الأولاد في الإسلام| المحاضرة السادسة والثلاثون| المسؤولية الاجتماعية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا، وزدنا علماً ينفعنا.

وبعد:

انتهينا من المسؤولية العلمية، والدينية في ميدان التربية، واليوم سنتابع في المسؤولية الاجتماعية. هذه المسؤولية تتطلب من الوالدين الرُّقي بأبنائهم؛ ليكونوا أعضاءَ صالحين في مجتمعاتهم مطبقين لأحكام دينهم، وهنا لابد من بيان بعض الحقائق وهي: 

1- كتب الله عزوجل على الإنسان ألا يعيش وحده؛ فهو مفتقر إلى غيره لقضاء حوائجه، وتدبير معاشه.

2- الله عزوجل كما أمرنا أن نكون صالحين في أنفسنا، كذلك أمرنا أن نكون صالحين في مجتمعنا.

3- الإنسان ينتقل من دائرةٍ صغيرة، هي دائرة الأسرة في البيت، إلى دائرةٍ أكبرَ هي المدرسة، إلى الأكبر منها هي الحياة كلها. 

4- المسجد هو المجتمع المتميز الذي يربي الطفل؛ ليكون ناجحاً في أسرته ومجتمعه. فلا نجعل المجتمع المسجدي ذلكم المجتمع المتميز قسماً رابعاً، وإنما المسجد هو المصنع الذي يصنع الإنسان الصالح المُصْلِحَ في المجتمع في كل مرحلة من مراحل حياته.

5- يعيش الإنسان فترة محددة من الزمن في المدرسة تنتهي بانتهاء المراحل الدراسية، وهو أيضاً لايعيش طوال عمره مع أفراد مجتمعه، أما المسجد فإنه يصحبه من طفولته حتى هرمه، ويبقى المسجد أساس تربية الإنسان؛ لهذا كان أول شيءٍ فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وصل إلى المدينة هو: بناؤه المسجد؛ لِمَا للمسجد من دورٍ هامٍ في تحقيق القيم التي يربي عليها المسجد رُوَّاده حيث يربيهم على مبادئ كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

6- لو نظرنا لميدان العبادات؛ لرأينا دورها البارز في تحقيق الجانب الاجتماعي؛ لهذا نرى الإسلام يهتم بها اهتماماً بالغاً فالننظر لـ:

* الصلاة: فصلاة الجماعة هي رباط اجتماعي، بالإضافة لجانب العبادة فيها فهي تجمع المجتمع في اليوم خمس مرات، و في الأسبوع مرة، وفي السنة مرتين. فالمسجد يجمع مفاصل المجتمع خمس مرات في اليوم، وهذا لاتراه في أي مجتمع غير المجتمع الإسلامي.

صلاة الجماعة في المسجد: تجمع البيئة والمجتمع لا على طقوس غير مفهومة، بل على عبادة الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى. حيث تزول في المسجد الفوارق الطبقية بين فئات المجتمع  فيذوب فيه وتنصهر كل أصناف الناس، فالجميع عبدٌ لله عزوجل كما قال تعالى: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [مريم 93]، وقال أيضاً {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات 10]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخ المسلم لايظلمه ولا يسلمه ولا يخذله بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه”[1].  

عندما يعيش الطفل في حياة المسجد فإنه يعيش في مجتمع تسوده مبادئ القيم والاحترام، والعبودية لله عزوجل. 

لغة الفريق، والعمل الجماعي تتجسد بشكلٍ واضحٍ في المسجد؛ حيث الجميع يلتزمون بالصلاة خلف إمامٍ واحدٍ يتحركون بحركته، ويجلسون بجلوسه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّما جُعِلَ الإمامُ ليؤتمَّ به، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قرأَ فأَنصِتوا، وإذا قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فقولوا: آمِينَ، وإذا ركَع فارْكعوا، وإذا قال: سمِعَ اللهُ لِمَن حمِدَه، فقولوا: اللهمَّ ربَّنا ولك الحمد، وإذا سجَد فاسجدُوا، وإذا صلَّى جالسًا، فصلُّوا جلوسًا أجمعينَ”[2].

اعتاد الناس في المجتمع على تقديم الأرقى علماً على غيره، وهذا يتحقق في المسجد. فعن أبي مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: “استووا ولا تختلفوا فتختَلِفَ قلوبكم ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”[3]. فتفضيل العقلاء على غيرهم يتحقق في المسجد.

* الصيام: لايشك عاقل ما للصيام من أثر اجتماعي يغرسه داخل المجتمع فكل المجتمع يمسك عن الطعام، والشراب، وسائر المفطرات معا،ً ويستيقظ للسحور معاً، ويفطر كل المسلمين معاً من مشارق الأرض إلى مغاربها عند غروب الشمس. كلها تمشي بنظام واحد؛ وهذا يُعَدُّ مظهراً من مظاهر الوحدة الإسلامية، أضف إلى ذلك مافي الصيام من تحقيق الوحدة الشعورية؛ حيث يشعر الغني بحاجة الفقير؛ فيرحمه، ويشعر الفقير بنعمة الله عليه فيشكرها ..

* الزكاة: أثرها كبيرجداً في المجتمع؛ لما تحمله من معاني المواساة، والتراحم بين الغني، والفقير كما أن فيها تربيةَ الفقير على القناعة، وتربي الغني للشعور بالمسؤولية تجاه المحتاجين.

* الحج: هناك يجتمع وفد الله من مختلف أصقاع العالم الإسلامي من شرق الأرض لغربها، ومن شمالها لجنوبها؛ فنرى كيف يجمع الله عزوجل وفود الأمة الإسلامية ضمن حركة عبادات تزيل الفوارق بين الناس، وتقوي روابط الأخوة الإيمانية فيقفون في عرفات معاً بدون تمايز، ولا فوارق بين أبناء الأمة حيث يزول من الجميع الترفع على الآخرين في المنصب والمال والجاه، كلهم سواء يلبسون أثواباً هي أشبه بأكفان الموتى، ويجلسون على الأرض جميعاً، ويتضرعون لربٍّ واحدٍ في مشهد إيماني توحيدي قلَّ نظيره، ولعل المتأمل يدرك بلا خفاءٍ السرَّ وراء جعلِ الحج في أيام معدودةٍ، وشهرٍ مخصوصٍ.

في عرفات يجتمع كل الحجاج، ويبيت الجميع في مزدلفة. وكذلك الطواف نرى الجميع يطوف باتجاه واحد؛ فيشعر الجميع بشعور الانتماء للأمة المسلمة، فلا يطوف طائف عكس الطائفين؛ لأن كل فرد هو واحد من هذه الأمة …كل هذا يريد الله من خلاله – إضافة لمعاني العبادة، وتوحيد لله عز وجل- تحقيق معاني اجتماعية لا يمكن تحقيقها بغير الحج.

أليست المعاني التي تحققها عبادة الحج رمزٌ من رموز بناء المجتمع؟ أليست شعائر الإسلام كلها تؤدي وتصل لأرقى العلاقات الاجتماعية؟

المحاور الأساسية في التربية الاجتماعية:

  • المحور الأول: أخلاق اجتماعية دعانا إليها الإسلام؛ لتربية الأبناء عليها، ويقابلها أخلاق مرذولة حذّر الإسلام منها، ونهانا عنها. فالإسلام يأمرنا بالرضا بما قسم الله، والإيثار والتواضع، والأخوة والرحمة، ونهانا عن الحسد والأثرة، والكبر والعدوانية، والقسوة.
  • المحور الثاني: التعرف على الحقوق الاجتماعية: كحق الوالدين، وحق الأرحام، وحق الجار، وحق المعلم، وحق المسلم عموماً… 
  • المحور الثالث: تربية الأولاد على الآداب: كأدب الطريق، وآداب المسجد، وآداب الطعام، والشراب، وأدب الكلام… فقد قال عمر بن أبي سلمة: “كُنْتُ غُلَامًا في حِجْرِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فَقالَ لي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمِينِكَ، وكُلْ ممَّا يَلِيكَ، فَما زَالَتْ تِلكَ طِعْمَتي بَعْد”[4].

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: “أن يهود أتوا النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السّام عليكم. فقالت عائشة: عليكم، ولعنكم الله، وغضب الله عليكم. قال: مهلًا يا عائشة، عليك بالرِّفق، وإياك والعنف، والفحش. قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: أو لم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ”[5].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ”[6].

وقال أيضاً: “ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا”[7].

وقال أيضاً: “ما آمن بي من بات شبعاناً و جار إلى جانبه جائعٌ، وهو يعلم”[8].

وقال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن}[فصّلت 34].

وقال تعالى أيضاً: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}[الأعراف 199].

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب، والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

___________________

[1]: البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه 2310.

[2]: البخاري 743، مسلم 414.  

[3]: مسلم 432.

[4]: البخاري 5376 واللفظ له، ومسلم 2022.

[5]: البخاري 6030.

[6]: مسلم كتاب الإيمان باب بيان تحريم إيذاء الجار 95.

[7]: الترمذي 1920.

[8]: الطبراني(259/1) 754.