سلسلة تربية الأولاد في الإسلام| المحاضرة الرابعة والثلاثون| تربية الأولاد على تعلم اللغات الأجنبية وبعض قضايا العلم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لارشد أمرنا وزدنا علما ينفعنا، وبعد: 

ما يزال الحديث يمضي بنا مع التربية العلمية والفكرية للطفل، واليوم نتابع في نفس الاتجاه ونقول:

ينبغي على الوالدين تشجيع أولادهم على تعلم اللغات الأجنبية التي يحتاجونها، وذلك بعد أن يتقن لغته الأم – اللغة العربية – لأنها لغة القرآن، والحديث وعلوم الشريعة.

لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود فقال له:” يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي. قَالَ زَيْد: فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ، وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ [1].

وهذا إن دل على شيءٍ فإنما يدل على نظرةٍ بعيدةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نقتدي به؛ فنوجه أبناءنا لتعلم اللغات الأجنبية التي نستخدمها في نشر الدين، وشرحه، وتوضيحه لغير الناطقين بالعربية، ثم إننا نوجه أبناءنا لتعلم اللغات الأخرى  للاستفادة من العلوم الموجودة عند غير العرب؛ إذ بدون معرفة لغتهم لن نَلِجَ لكتبهم، ونتعرَّفَ علومَهم.

بعض الآباء ينظر لتعلم اللغات الأخرى على أنها مسألة آنية لا تتعدى زمَنَ تعلُّمِها، ولايحتاج إليها الأبناء بعد تعلمها.

الحقيقة إن الطفل يجب أن يُهَيَّأ لكل ما يمكن أن يَعْرِضَ له في حياته في المستقبل فالولد كلما كان أكثر تمرُّسَاً لعلوم قد يحتاجها في المستقبل؛ كانت خياراته في المستقبل أكثر، وأوسع؛ فنعلِّمُ الطفلَ في الصغر ما يحتاجه عند الكبر؛ فهذا من الإعداد الواجب على الوالدين تجاه أبنائهم.

مهمة:

1- إن تعلُّمَ أي لغةٍ أجنبيةٍ رديفةٍ على اللغة العربية، يجب أن يتم بعد تعلُّمِ وإتقان العربية.

2- يجب على الوالدين توجيه أبنائهم لميولهم، واستعداداتهم، وليس بناءً على ما يحلُمُون به في أولادهم.

  إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوجِّهُ كل واحد من أصحابه لما يجده عنده من الاستعداد، ويشجعه عليه؛ فقد نظر لاستعداد حسان بن ثابت لِقَرْظِ الشِّعْرِ، وبراعته به فأمره بالردِّ على هجاء المشركين وقال له: “أَجِبْ عني أيَّدَكَ الله بروح القدس”[2].

وكان يقول عليه الصلاة والسلام: “أَرْحَمُ أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدُّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأعلمهم بالحلال، والحرام معاذ بن جبل، وأَفْرَضُهُم زيد بن ثابت، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، ولكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح”[3].
فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شخص لاستعداده، واختصاصه. وعندما أمر زيد بن ثابت تعلم السريانية لم يأمر غيره؛ لأنه وجد عنده الاستعداد لهذا الأمر، والقدرة عليه. 

وكذلك فعل الخليل بن أحمد الفراهيدي مع الذي جاءه يتعلم علم العروض، فلما رأى الخليل الرجل لن يفلح في تعلم هذا العلم كتب له بيتا من الشعر، وطلب منه أن يُقطِّعَه. لقد كان البيت الشعري في حقيقته نصيحةً مبطنةً لهذا الرجل ينصحه فيه الخليل ترك تعلم هذا العلم الذي صَعُبَ عليه، والتوجه لغيره يكون ضمن استعداده وقدرته فقال له: قطِّع هذا البيت: إذا لم تستطع شيئاً فَدَعْهُ وجاوزهُ إلى ما تستطيعُ. فلم يعد الرجل لتعلم العروض عند الخليل، وفهم النصيحة.

3- حلم الوالدين شيءٌ، وقُدراتُ الأولاد واستعداداتهم شيءٌ آخر. فبعض الآباء يصوِّرُ نجاح ولده بزاويةٍ واحدةٍ ومجالٍ واحدٍ، ولا يدري الأب أن هناك مجالات أخرى قد يَبْرَعُ فيها ولده، وربما كان هذا بعيداً عن وجهة نظر الوالد وما فكَّرَ فيه؛ فلايجوز للوالدين إرهاقَ أبنائهم باختيار اختصاصٍ معين، والطلبَ منهم أن يدرُسُوه؛ بل نفتح أمامهم مختلف الاختصاصات؛ ليختاروا منها ما يرون فيه نفوسهم، وما هم قادرون عليه، ويلتق مع استعداداتهم، وطموحهم.  

4- من القضايا التي راعاها الإسلام، وحرص عليها في قضية التربية العلمية، والعقلية للأولاد: أن الطفل ينبغي أن يُصَانَ عقله، وفكره عن القضايا الخرافية التي لا أصل لها.

ولنا في قصة كسوف الشمس بعد موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم عبرةٌ وعظةٌ، فقد روى البخاري عن المغيرة ابن شعبة رضي الله عنه قال: كُسِفَت الشمس على عهد رسول الله يوم مات إبراهيم فقال: “إن الشمس والقمر لاينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله”[4].

رسول الله لم يسكت عن هذا التصور الخاطئ، ولم يترك الناس يتحدثون به، في الوقت الذي كان مشغولاً فيه بدفن ولده؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة إقرارٌ لهذا التصور الخاطئ.

لم يسكت رسول الله المشرِّع عن الكلام العاطفي الذي قد يلاقي محلاًّ في قلب أي والدٍ يفقد فلذة كبده. لقد كانت غَيْرَةُ رسول الله على الحقيقة العلمية أشد من تعاطفه صلى الله عليه وسلم مع موت ولده. لقد خشي رسول الله من ترسُّخ هذه المفاهيم الخاطئة في أذهان الناس واعتقادهم.

ما ينبغي للوالدين أو الجدات والأجداد قَصَّ الحكايات الخرافية التي لا أصل لها على أذهان الصغار؛ فمن الخطأ أن نسمح لعقول الناشئة أن تَغْرَق في قَصَصٍ خرافيةٍ لا تحمل هدفاً أو غايةً، أو عبرةً تربوية، في الوقت الذي يمكننا فيه إشباع رغبة الأطفال، ونهمهم بأشياء كثيرة ترجع بالفائدة عليهم.

5- لابد من وجود مكتبةٍ في البيت تتناسب مع عمْرِ الولد واستيعابه، ومراحل تطوره. على أن تكون مكتبةً متنوعةً منها المقروء، ومنها المسموع، ومنها المرئي.

6- كما نحرِص على تأمين غذاء الجسم للأطفال، يجب أن نحرص على تأمين غذاءِ عقولهم. للأسف كثيرٌ من الأُسَرِ لاتهتم بهذا الأمر، مع أن الله عزوجل أوحى لرسوله بأول كلمة خاطبه فيها فقال له: {اقرأ} [العلق].

الذي لايقرأ تَنْغَلِقُ منافذ فِكْرِه، والذي يقرأ يرقى، ويزداد حكمةً وثقافةً، وعمقاً واستيعاباً للحياة.

ما أجملَ أن يرى الولد والداه، وهما يحملان كتاباً يقرآنه بشكل مستمر.

بل ما أجملَ أن يرى الولد والده، وهو في النزهة يمسك كتاباً يقرأه؛ فهذا يبعث في نفس الولد، وعقله تقديرَ الكتاب، ويُشْعِرُه بأهميته، ويجعل الولد يتعلق بالكتاب كما يتعلق به والداه.

7- إن وضع مكتبة في البيت تغطي احتياجات الأولاد الفكرية بمختلف المجالات الدينة، والعلمية بمختلف أنواعها؛ يغرس في الأولاد حُبَّ المعرفة.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

_____________

[1]: سنن الترمذي كتاب الاستئذان والآداب باب ماجاء في تعلم السريانية 2715، وأبو داوُد 3645.

[2]: السنن الكبرى للبيهقي من حديث حسان بن ثابت 10/237.

[3]: الترمذي من حديث أنس بن مالك 3790، وابن ماجه 154واللفظ له، وأحمد 12927.

[4]: البخاري باب الصلاة في كسوف الشمس 996.