سلسلة تربية الأولاد في الإسلام| المحاضرة الرابعة والأربعون| تربية الأولاد على حقوق الجار

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا، وزدنا علماً ينفعنا.

وبعد:

تكلمنا في الدروس الماضية عن الحقوق الاجتماعية التي ينبغي أن نربي عليها أبناءنا، فذكرنا حق الوالدين، وحق الأرحام، ونريد اليوم أن نتكلم عن حق الجار، هذا الحق الذي نراه قد ضاع – للأسف – في كثير من المجتمعات؛ فصارت علاقاتنا مع من حولنا مبنيةً وقائمةً على المصالح المادية، والمنافع الشخصية، وغاب عنها  التوجه الديني، والتربية الإسلامية التي فرضها علينا كتاب ربنا، وتوجيهات سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنه غاب عن سلوكنا، وأخلاقنا فمن الطبيعي أن يغيب عن تربيتنا لأبنائنا، فالملاحظ أن من النادر أن يربِّي الوالدان أولادهما على القيام بحقوق الجيران، ونادراً ما يوجهونهم لصلة الجار، ووجوب إكرامه، وكف الأذى عنه.

الواجب على المسلم أن ينظر لحقِّ الجار على أنه واجبٌ ديني فرضه الله على الجيران مع بعضهم، ولا يجوز النظر لهذا الحق على أنه واجب اجتماعي فقط؛

 فربنا سبحانه قرن الإحسان للجار، مع وجوب عبادته سبحانه عندما قال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ [النساء 36].

 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من لايأمن جاره بوائقه» [1]، وقال أيضاً: «مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ» [2].

  إذاً مسألة الإحسان للجار ليست مسألةً مزاجيةً يختارها من يشاء، وقت ما يشاء؛ بل هي واجبٌ فرضه الله عزوجل، ولم يفرِّق فيه بين الجار المسلم، وغير المسلم وإن كان حقُّ المسلم أوجب، وكذلك لم يفرق بين الجار الصالح، والجار الفاسق المهم: ألا يصل أي أذىً للجار.    

ويتضح هذا من خلال سلوك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة واليهود في المدينة.  

فعن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍو، أنَّهُ ذبحَ شاةً فقالَ : أَهْدَيتُمْ لجاري اليَهوديِّ؟ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ يقولُ: «ما زَالَ جبريلُ يوصيني بالجارِ، حتَّى ظنَنتُ أنَّهُ سيُورِّثُهُ» [3].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً: «مَن كان يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُكرِمْ جارَه ومَن كان يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلا يدخُلِ الحمَّامَ إلَّا بمِئزَرٍ ومَن كان يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيقُلْ خيرًا أو لِيصمُتْ ومَن كان يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ مِن نسائِكم فلا تدخُلِ الحمَّامَ» [4]

 أي ليكن منك عمل إيجابيٌ تكرم به جارك، والإكرام لايكون إلا للشَّخص المُحَبَّب للنفس.

إن الإحسان للجار هو أحد العلاقات الاجتماعية التي أرسى قواعدها الإسلام بتوجيهاته، وتعليماته؛ لنشر التحابب في المجتمع، ونبذ كل ما من شأنه أن يؤدي للتنافر، والبغضاء، والحقد بين أفراد المجتمع لهذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد على هذه المعاني فنراه يقول: «لا تَباغضوا، و لا تَقاطعوا، و لا تَدابَروا، و لا تَحاسَدُوا، و كونوا عبادَ اللهِ إخوانًا كما أمرَكمُ اللهُ، و لا يَحلُّ لمسلِمٍ أن يهجُرَ أخاه فَوقَ ثلاثةِ أيَّامٍ» [5].

 وقال أيضاً في رواية أخرى: «لا تَحاسَدُوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدابَرُوا، ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ علَى بَيْعِ بَعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هاهُنا ويُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ، دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ» [6].

لو نظرنا لحال الناس اليوم؛ لرأينا أن واقعهم قد غابت عنه هذه المعاني، فلا يتفقد الجار جاره، ولايكاد يَفْطَنُ له، إلا عند حدوث مشكلة؛ ليشكوها له، أو ليعاتبه عليها، أو غير ذلك.  أما التزاور، والتواصل، والتعاون لمجرد الجوار، فهو مفقودٌ مع أن الجميع قد يسكن في عمارةٍ واحدةٍ، وربما يلتقيان في المصعد، فلا يتحدثان مع بعضهم.  ربنا سبحانه ذكر من يمنع آنيته عن جاره (عاريةً ) فقال: ﴿فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون﴾ [الماعون 4-7].

التواصل بين الجيران صار نادراً لدرجة أنه لوحدثت مشكلة ما مع أحد الجيران فإنها سرعان ما تتفاقم، ويصعب علاجها، بل ويلجأ أصحابها للمحاكم لإيجاد الحل والسبب هو: فقد التواصل بين الجيران؛ فهم يتعاملون مع بعضهم كغرباء يختلفون لأدنى مشكلة.

ما أجمل أن يتفقد الجار جاره؟ بل، وأن يَعْرِضَ له خدماته التي قد يحتاجها؟، بل ما أجمل أن يشارك الجار جاره في أفراحه، ويحمل معه بعض أحزانه؟ فهي معانٍ إيجابيةٍ فقدها كثيرٌ من الناس.

  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث على الهدية للجار، ولو كان المُهدَى شيئاً قليلاً: «يا نِساءَ المُسْلِماتِ، لا تَحْقِرَنَّ جارَةٌ لِجارَتِها، ولو فِرْسِنَ شاةٍ» [7]، الفِرْسَن: مايكون في ظُلْفِ الشاة وهو شيء يسير زهيد.

  • كيف نربي أولادنا على مراعاة حقوق الجار:
  • 1- نعلم أولادنا مباديء الإسلام، وتصوراته عن الجار، وسبب إهتمامه بأداء حقوق الجار؛ فنذكر لهم الآيات، والأحاديث المذكِّرةِ بفضل الجار، والمبيِّنة لمكانته، ونبين لهم خطورة أذى الجار.  قال رجل:  «يا رسولَ اللهِ إنَّ فلانةً تُكثِرُ من صلاتِها وصدقتِها وصيامِها غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بلسانِها قال: هي في النَّارِ قال يا رسولَ اللهِ فإنَّ فلانةً يَذكرُ من قلَّةِ صيامِها وصلاتِها وأنَّها تتصدَّقُ بالأثوارِ من الأقِطِ ولا تُؤذي جيرانَها قال هي في الجنَّةِ» [8].
  • 2- أن نغرس في نفوس أبنائنا الاهتمام بالجيران، كتقديم المساعدة لهم، ونذكرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى» [9].

كم هو جميل أن يساعد الجار جاره العجوز، ويعينه على قضاء حوائجه أمام أولاده؛ فيتعلم الأولاد قيمة الجار، وتظهر لهم أهميته!

  • 3- نعلم أولادنا مراعاة الجار؛ بأن نفعل مايرضيه، ونترك كل ما من شأنه إزعاجه، وإيذاءه.
  • 4- نبين لأولادنا أن مصطلح كل إنسان حرٌّ في بيته، حريةً مطلقةً يفعل ما يشاء هو مصطلح خاطئ، فلا يوجد حريةٌ مطلقةٌ بل مراعاة وضع الجار من مرض، ونوم، وغير ذلك واجبٌ على الجيران تجاه بعضهم فلا يجوز رفع الصوت، وإصدار الضجيج أثناء نوم الجيران، وفي حال وجود مناسبة خاصة عندهم، أو وجود حالة صحية تستلزم خفض الصوت..

مهمة: تربية الأولاد على هذه الأخلاق ضرورة لابد منها؛ ليعيش أفراد المجتمع مع بعضهم بصورة منسجمةٍ، وكأنهم أسرةٌ واحدةٌ يهتم كل فرد بالفرد الآخر، ويراعي كل جارٍ أحوالَ جاره، وظروفه الخاصة.

اللهم وفقنا لمحابك والهمنا مراشد الصواب والهداية

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]: صحيح مسلم 46.

[2]: البخاري 6018، مسلم 47 واللفظ للبخاري.

[3]: سنن أبي داوود 5152.

[4]: صحيح ابن حبان 5597 من حديث أبي أيوب الأنصاري.

[5]: البخاري 6076، ومسلم 2559 ببعض الاختلاف.

[6]: مسلم 2564.

[7]: البخاري2566.

[8]: مسند أحمد 9675.

[9]: البخاري 6011، ومسلم 2586 واللفظ له.