سلسلة تربية الأولاد في الإسلام| المحاضرة الثالثة والأربعون| حق الأرحام

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا، وزدنا علماً ينفعنا.

وبعد:

لانزال نتكلم عن المسؤولية الاجتماعية في تربية الأولاد، وقد انتهينا من قضية بر الوالدين، واليوم سنتحدث عن أحد الحقوق الاجتماعية التي يجب أن يهتم بها الآباء قبل تربية الأبناء عليها ألا وهي: صلة الأرحام .

لابد أن نعلم، ونحن نتحدث عن صلة الأرحام أن هناك علاقةً وثيقةً بين هذا الموضوع، وموضوع بر الوالدين؛ فالله تعالى يقول: ﴿وبالوالدين إحساناً وبذي القربى﴾ [الإسراء 23].

رعى الله المجتمع المسلم بأحكام، ورعاه رسول الله بتوجيهاتٍ؛ نصل من خلال هذه الأحكام، والتوجيهات إلى أفضل العلاقات داخل المجتمع المسلم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [1].

كم هي الصورة جميلةٌ، لو حصل هذا التلاحم في كل مفاصل المجتمع!

لقد اهتم الإسلام على وجه الخصوص بالعلاقات بين الأرحام، وقد تجلى هذا الاهتمام بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوجه المؤمنين لصلة أرحامهم عندما قال: «إنَّ الرَّحمَ شَجنةٌ آخذةٌ بحُجزةِ الرَّحمنِ، تَصلُ من وصلَها، وتقطعُ من قطعَها .الرَّحمُ شَجنةُ الرَّحمنِ، أصلُها في البيتِ العتيقِ، فإذا كانَ يومُ القيامةِ ذَهبَت حتَّى تناولَ بحُجزةِ الرَّحمنِ، فتقولُ: هذا مَقامُ العائذِ بِكَ . فيقولُ: مِمَّاذا ؟ وَهوَ أعلَمُ . فتقولُ: منَ القَطيعةِ . إنَّ الرَّحمَ شَجنةٌ آخذةٌ بحجزةِ الرَّحمنِ، تصلُ من وصلَها، وتقطعُ من قَطعَها» [2].

  • يبرز اهتمام الإسلام بقضية الأرحام من عدة نقاط:
  • النقطة الأولى: العلاقات النسبية الرحمية: ونقصد بها العلاقات المبنية على أساس النسب، والقرابة سواء كان ذلك من جهة الأب أم من جهة الأم، ومن الذكور والإناث، والقريب والبعيد، علاقةٌ نسبية رعاها الإسلام على السواء من جهة الأب والأم.    

قال تعالى: ﴿والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب﴾ [الرعد 21].

وقال تعالى أيضاً: ﴿واتقو الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً﴾ [النساء 1].

  • النقطة الثانية: تربية الأولاد على صلة الرحم تبدأ من البيت، من خلال:
  1. الأب والأم: فمن واجب كل واحد منهما أن يغرس في قلب ولده الرأفة والرحمة على إخوته أولاً، وعلى ذوي القرابة ثانياً، وذلك من خلال التدريب والمتابعة والتنبيه، فلا يجوز أن يسري في نفوس أولادنا الحقد على بعضهم، ويكون ذلك من خلال تذكير الأبناء بالآيات، والأحاديث الدالة على ذلك، وأن هذا أمر واجب، وأن قاطع الرحم آثم عند الله عزوجل، بل أن يرقى الأب بأبنائه؛ بأن يشعرهم أن صلة الأرحام جزء من رضى الأب، ورضا الله من رضا الوالدين، ورضا الوالدين بصلة الأولاد أرحامهم.
  2. أن يغرس الأب بين أولاده المودة والرحمة، وترك كل ما من شأنه إثارة الأحقاد والضغائن بينهم، كتفضيل بعضهم على بعض بالعطية دون سبب شرعي، وعلى الوالدين الانتباه إلى أن كثيراً من الأحقاد بين الأولاد قد يرجع سببها إلى الوالدين أنفسهم؛ بسبب سوء تعاملهم مع أبنائهم.
  3. زيارة الأب أرحامه بصحبة أولاده؛ فيتعلم الولد صلة الرحم بدرسٍ عملي، فيقلِّدُ الولد أباه.
  4. أن نذكِّر الأولاد بآثار صلة الرحم وننظر إليه على أنه واجب ديني فرضه الله علينا وان وجود بعض الخلاف بين الأقارب لايوجب قطيعتهم؛ لأن هذا جزء من بناء المجتمع؛  فقد شرَع الله صلاة الجماعة، والجمعة، والعيد، والحج؛ لتحقيق هذه المعاني، وليبق نسيج الأمة قوياً متيناً بين أفراد الأمة كلها، وليس على صعيد الأفراد، وحسب.
  5. ليست صلة الأرحام قضيةً مزاجيةً بل واجبٌ شرعيٌ فرضه الله عزوجل.
  6. يجب على الوالدين بناء أسرتهم على مبدأ الجسد الواحد الذي يَشْعر فيه كل فرد من أفراد الأسرة بشعور إخوانه. لقد صار حال أبناء كثير من الأسر أن يعيش في بيته، كأنه يعيش في فندق يأتي إليه للنوم والأكل، ولا يأبه ببقية الساكنين فيه.
  7. عوِّد ابنك أن يكون حنوناً شفوقاً على إخوته من خلال بعض الصورالعملية التي تصدر منك (الأب)، كأنْ يراك ابنك مهموماً محزوناً فيسألك عن سر ذلك؟ فتخبره بأنك حزين لمشكلة حصلت لعمّه؛ فيتعلم هذا الولد قيمة العم من اهتمام والده به؛ فيهتم لما يهتم له والده.
  8. اجتماع أفراد العائلة جميعاً على الطعام؛ يحقق التحابب بين الأبناء مع بعضهم بل انتظار الأب والأم والإخوة أحد أفراد العائلة، وعدم الأكل مثلاً حتى يحضر؛ يغرس في نفوس الأبناء قيمة الأخوة، و يعززها.
  • سؤال: ماهو الحد الأدنى لصلة الرحم التي لو قمنا بها لا نكون آثمين؟

قبل الجواب عن هذا السؤال لابد أن نعلم أن الإحسان لانهاية له ولاحدَّ، ولكن له حدودٌ دنيا ماينبغي أن تنزل عنه منها:

  • 1- لايجوز أن يكون هناك قرار قطيعةٌ نحو أحدٍ: لاعمٍّ ولاخالٍ ولا أخٍ ولا… فهو إفساد وإثمٌ، ومخالفةٌ لأوامر الله تعالى عندما قال: ﴿فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم﴾ [محمد 22].
  • 2- لا يجوز أن يكون في القلب حقدٌ، ولا عداوةٌ، ولابغضاءٌ نحو أحدٍ من الأرحام، وأن الناس لايمكن أن يعيشوا وحدهم، بل هم بحاجة لبعضهم البعض. 
  • 3- ما ينبغي للإنسان أن يترك التواصل مع أرحامه، وخصوصاً في المناسبات، وعند الحاجة. قال رجل يا رسول الله من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: «أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك أدناك» [3].
  • 4- الغاية من زيارة الأرحام، وصلتهم؛ أن يتحقق فيها دفء العلاقة الإسلامية والمودة والرحمة، فالزيارات بين الأقارب ماهي إلا مظهرٌ من مظاهر صلة الرحم، وتصافي القلوب، ومادامت القلوب متصافيةً ومتراحمةً فلن تَضِرَّ قلة الزيارات.
  • 5- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» [4].
  • أتى رجلٌ فقال : «يا رسولَ اللهِ! إنَّ لي قرابةً أَصِلُهُمْ و يقطعونِي، و أُحْسِنُ إليهم و يُسيئونَ إليَّ، و يجهلونَ عليَّ و أحلمُ عنهم، قال: لئن كان كما تقولُ كأنما تُسِفُّهُمْ المَلَّ و لا يزالُ معك من اللهِ ظهيرٌ عليهم ما دُمْتَ على ذلك» [5].
  • 6- نذكر لأولادنا حال السلف الصالح مع أقاربهم، ولا بأس أن نذكر لأبنائنا فضائل أقاربهم، ونتغاضى عن أخطائهم؛ فهذا من شانه غرس المحبة بين الأقارب، ونبذ التباغض.
  • 7- نذكر لأولادنا الأحاديث الكثيرة التي نبهت لصلة الرحم، وحذرت من القطيعة.

كحديث: «إنَّ صدقَةَ السِّرِ تُطْفِئُ غضبَ الربِّ، وإنَّ صنائِعَ المعروفِ تَقِي مصارِعَ السوءِ، وإنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تزيدُ في العمْرِ وتَنْفِي الفَقْرَ، وأكثِرْ من قولِ لا حولَ ولا قوةَ إلَّا باللهِ فإنه كنزٌ من كنوزِ الجنةِ، وإنَّ فيها شفاءً من كلِّ داءٍ أدناها الهمُّ» [6].

وحديث: «من سرَّه أن يُبسَطَ له رزقُه، و أن يُنسَأَ له في أثرِه، فلْيَصِلْ رَحِمَه» [7].

وغيرها من الأحاديث التي تعرِّف بقيمة صلة الأرحام.  

  • 8- ونذكِّرأولادنا بأن التراحم فيما بينهم سببٌ لنزول رحمة الله عزوجل؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمُهم الرحمنُ، ارحموا من في الأرضِ يرحمْكم من في السماءِ، الرحمُ شِجنةٌ من الرحمنِ فمن وصلها وصله اللهُ ومن قطعها قطعه اللهُ» [8].
  • 9- أعرِّف ولدي أن صلة الرحم يتحقق فيها نوعٌ من العبادة لله عزوجل، وهذا من العبادات التعاملية التي يفصِلُهَا كثير من الناس عن العبادات الشعائرية.

ملحوظة: قد تحدث مشكلة بين الأب، وأحد الأرحام كالعم مثلاً؛ فيقع الولد بين نار برِّ أبيه، وواجب صلة عمه، ونار قطيعة رحمه، وهنا على الولد أن: يقدم لوالده بمقدماتٍ يسترضي بها قلبه، ويحاول الإصلاح بين أبيه، وعمه، وبنفس الوقت يجعل من زيارة عمه أمراً مستساغاً للوالد.

اللهم وفقنا لمحابِّك، وألهمنا مراشد الصواب، والهداية.

وصلى الله على سيدنا, ونبينا محمدٍ، وعلى آله، وصحبه وسلم.

__________________

[1]:البخاري 6011، مسلم 2586.

[2]: مسند أحمد 9871.

[3]: صحيح مسلم 2548.

[4]: البخاري 5991.

[5]: مسلم 2558.

[6]: مجمع الزوائد 8/196.

[7]: البخاري 2067، مسلم 2557 باختلاف يسير.

[8]: الترمذي 1924.