سلسلة تربية الأولاد في الإسلام| المحاضرة الثانية والأربعون| تحذير الأولاد من العقوق

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا، ونبينا محمد وعلى آله، وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا، وزدنا علماً ينفعنا.

وبعد:

أنهينا في المحاضرة الماضية الحديث عن بعض حقوق الوالدين على الولد سواء منها المادية، والمعنوية، والأدبية، واليوم سنكمل الحديث في موضوع حق الوالدين من زاوية أخرى، وهي: أن المجتمع الإسلامي اليوم انتشر فيه كثيرٌ من صور العقوق التي تتنافى مع دين الله عزوجل، وباستعراض شيء من هذه الصور فإننا نرى أشياء مؤلمةً، لاتتساوق مع الإيمان بالله عزوجل، واليوم الآخر، وأوامر الله عزوجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهي صورٌ لاتبشر بالخير، صور يتجسَّدُ فيها تضييع حقوق الوالدين المادية والمعنوية، صورٌ لفقد مكانة الأب والأم في البيت، صور لتقديم الزوجة على الأم، والأولاد على الأم والأب، صورٌ لتزوير واختلاس أموال الوالدين..

هل من المعقول أن يصل بنا الحال بالعقوق – ونحن أمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمر وحضّ على حسن صحابة الأم- أن يتدافع الأولاد أمَّهُم -التي ربتهم- أين تقيم، وكلهم كاره لإقامتها عنده؟!! هل من المعقول أن يصل بنا الحال أن تطالب الأم بحقها في النفقة برفع دعوى قضائيةٍ في المحاكم؟! هل من المعقول أن يصل بنا الحال أن يرفع الأب دعوى قضائيةً على ابنه لتزويره وثائق نقل ملكيته، وماشابه..؟

إن ماسبق، وغيره كثير ماينبغي النظر إليه على أنه واقع اجتماعي مؤلم بل هو نذير شؤم على مستوى الأمة التي يشيع فيها العقوق، ويسير بها نحو الهلاك، فالبغيّ والعقوق يعجل الله عقوبتهما في الدنيا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بابان يعجل الله عقوبتهما في الدنيا الغيُّ والعقوق» [1].

دار المسنين في مجتمعات المسلمين ظاهرة اجتماعية لابد أن ننظر إليها بحساسية – بعد استبعاد الحالات الخاصة – كيف يمكن أن تكون هذه الدار مأوى للأب، والأم عند الكبر بعد كل البذل الذي قدماه لأولادهما؟ أليس من الواجب أن يعيش الوالدان مع أولادهم وأحفادهم؛ فهما المكلفان بخدمتهما؟

ما ينبغي أن نسمح لتلك العادات الغربية أن تسري لبيوتاتنا وأسرنا، بل لابد من المحافظة ما أمكن على دفء علاقات المحبة، والمودة بين الأولاد، ووالديهم.

قد يَضْعُف جسم الوالدين، ويلحق الضعف عقلهما أحياناً، ولكن يبقى عندهما كنوز لاتوجد إلا بوجودهما، وأول كنز هو:

كنز العاطفة: وأي كنز أن يعيش الأولاد مع أجدادهم؟ إن دفء العاطفة بوجود الجد والجدة بين الأحفاد ثروة لاتقدر بثمن، وكنز لايَقْدِرُ قدْرَه إلا من حُرِمَ منه.

أليس كنزاً أن تكون الأم والأب سقفاً يجتمع تحته كل أفراد العائلة بعد تعقد الحياة وتشابكها؟

أليس كنزاً تلك الحسنات التي تُزَفُّ للأولاد ليل نهار؛ بسبب العناية بوالديهم حتى دون دعاء الوالدين لهم؛ فالله يعلم السر وأخفى؟ فكيف لو اجتمع إلى هذا الإحسان دعاء الوالدين لهم؟ كيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن دعاء الوالد لولده لايرد؟ عندما قال: «ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» [2].

مات والد أحد السلف؛ فبكى ولده كثيراً، وقال: لقد مات الباب الذي كنت أرزق بسببه.

أغلب الأولاد يحفظون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاءني جبريل فقال: شقي عبد أدرك والديه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة» [3].

ويحفظون أيضاً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لايقبل الله منهم صَرفاً ولا عدلاً: عاقٌّ، ولا منانٌ، ولا مكذِّبٌ بقدَر» [4]، مفاتيح القبول مرهونةٌ ببر الوالدين، وطابع الردِّ مدموغ بالعقوق، ويحفظون أيضاً: جاء طلحة بن عبيد الله السلمي فقال: «يارسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله قال: “أمك حية؟ قلت: نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الزم رجلها فثمَّ الجنَّة» [5].

كل هذا الكم من الآيات، والأحاديث التي تحضّ على البر، ومع ذلك انتشر العقوق في مجتمعاتنا!! لماذا غابت عنا ثقافة البر؟ لماذا وصل بنا الحال لتوسيط بعض الأشخاص للإصلاح بين الأب وابنه؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه» [6].

لماذا نستعظم التدخين، وشرب المسكرات من أولادنا، ولا نستعظم العقوق، وهو من الكبائر عند الله عز وجل؟! لماذا نتساهل بقضية العقوق؟ لماذا كثرت صور القطيعة بين الأولاد ووالديهم؟

أبرز الأسباب لما يحدث هو:

  • أولاً: غياب الثقافة الإسلامية، وغياب إرشادات الآيات، والأحاديث عن ثقافة التربية لأولادنا؛ فلابد أن أرسخ في نفس ولدي قضية بر الوالدين، وتحذيره من خطورة العقوق؛ فهو من تمام  التربية، فأُحذّر ولدي من العقوق كما أحذره من الزنا، وشرب الخمر، وتعاطي المخدرات.

المشكلة أن المربين يذكرون، ويحذِّرون الأولاد من مخاطر تزعجهم اجتماعياً فقط؛ فيشرحون لأولادهم الصور المرعبة لمدمن المخدرات، وكيف يبدو حاله، ووضعه الصحي بسبب الإدمان، ولكنهم لايبيِّنون الصورة المظلمة لحال العاق لوالديه؛ لهذا ترسيخ ثقافة البر، والتحذير من العقوق يبدأ من نعومة الأظفار.

مهمة: بعض الآباء يفرح ببر ولده له، ولايأبه بعقوقه لأمه، ويرى أن هذا لصالحه، وما درى هذا الأب أن عقوق الولد لأمه يرجع بالويل، والثبور على ولده؛ لأن شؤم العقوق يرجع إليه؛ لهذا على الأب أن يراقب برَّ ولده بأمه، وإن رأى منه تقصيراً نبَّهَهُ عليه، وأدّبه على التزامه.

  • ثانياً: ضعف العلاقات الدافئة داخل أسرنا بين الآباء وأولادهم، فالسعادة ليست بما نأكل ونشرب، بل بدفء العلاقة في البيت بالمودة والرحمة، فهما من أسباب السعادة.
  • ثالثاً: معاملة الولد بقسوة أثناء تربيته، وتغييب الكلمة الطيبة وإشباع الأولاد بالكلمات القاسية، والألفاظ النابية؛ فينتج عن هذا تصحُّرٌ عاطفي، وعداوة وبغضاءٌ، وأول نتائج هذه القسوة هي عقوق الوالدين لآبائهم وأمهاتهم.
  • رابعاً: إهانة الأم أمام أبنائها من قبل الأب موقفٌ خطير؛ يغرس في نفس الولد العقوق، وبالمقابل ما تفعله الأم من تصغير مكانة الأب في عين أولاده  لا يقل سوءاً عن تصرف الأب؛ فالوالدان هما من يبذر بذور العقوق في نفوس أبنائهم.
  • خامساً: المشاكل الزوجية بين الوالدين، وحل هذه المشاكل على مسمع الأولاد، وعيونهم؛ عنصر هام في بذر بذور العقوق، وعندما تكون العلاقة بين الوالدين قائمة على الاحترام، والتعظيم؛ يتعلم الأولاد هذا السلوك ويسري فيهم، فالكلمات الدافئة من الزوجة لزوجها، ومن الزوج لزوجته؛ يغرس الاحترام، والبر في نفوس الأولاد.
  • سادساً: عقوق الآباء، والأمهات لآبائهم، وأمهاتهم يسري للأولاد أيضاً ﴿جزاء وفاقاً [النبأ 26]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بِرُّوا آبائكم تبركم أبناؤكم وعِفُّوا تعفَّ نساؤكم» [7].

  فنحن نعطي أبنائنا دروساً في العقوق؛ من خلال علاقاتنا مع أبائنا، وأمهاتنا.

  • سابعاً: انتشار الثقافات الغربية في المجتمعات الإسلامية، وبين الأولاد: وهي ثقافات لا تمت لمبادئنا، وأخلاقنا وديننا، وقناعاتنا وعاداتنا بأي صلةً. فمثلاً: عيد الأم بالصورة الغربية المنتشرة، هي عند المسلمين صورةٌ من صور العقوق، وأبناء المسلمين – للأسف – صاروا يقلدون الغرب بكل هذه الالتهابات والأمراض؛ فظن أولاد المسلمين أنهم لوقاموا بواجبهم في عيد الأم فكأنهم قاموا بحق البر لوالديهم مع أن البر أوسع من هذا بكثير.
  • ثامناً: مصاحبة الولد العاق: فالمرء على دين خليله،  فالصديق البار يذكِّرُ صديقه بالبر، والصديق العاق يعوِّدُ صديقه العقوق.
  • تاسعاً: وسائل الإعلام تنشر في نفوس الأبناء فكرة العقوق؛ بما تعرضه متنافياً مع بر الوالدين.
  • عاشراً: بعض الآباء لا يعين ولده على بره: فرحم الله والداً أعان ولده على بره.
  • الحادي عشر: الدعاء للولد من قبل الوالدين يعين الولد على البر، فحال الأم التي تدعو لولدها: دعائي لك يردُّكَ إليَّ. لقد نهى رسول الله عن الدعاء على الأبناء كما في الحديث:«من هذا اللاعنُ بعيرَه؟! انزِلْ عنه، فلا تصحَبْنا بملعونٍ، لا تدْعوا على أنفُسِكم و لا تدعوا على أولادِكم، و لا تدْعوا على أموالكم، لا توافِقوا من اللهِ ساعةً يُسأَلُ فيها عطاءٌ، فيَستجيبُ لكم» [8].

اللهم وفقنا لمحابِّك، وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

_____________________________________________

[1]: أخرجه الحاكم 7350، البخاري في الأدب المفرد 895.

[2]: أبوداوود من حديث أبي هريرة 1536، والترمذي 1905 واللفظ له.

[3]: الأدب المفرد للبخاري 500.

[4]: ابن أبي عاصم في السنة 323.

[5]: الطبراني 8162.

[6]: الترمذي 1900، ابن ماجه 3663.

[7]: الطبراني في الأوسط 1002.

[8]: مسلم 3009.