سلسلة تربية الأولاد في الإسلام| المحاضرة الواحدة والأربعون| حق بر الوالدين (3)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا، وزدنا علماً ينفعنا.

وبعد:

مانزال نتحدث عن حق بر الوالدين في جزئه الثالث؛ لأن الإنسان لايمكن أن يكون محسناً للناس؛ وهو غير مُحْسِنٍ مع أكثر الناس قرباً منه، وهما والداه؛ فالإحسان للناس متفرعٌ عن الإحسان الأول، وهو الإحسان للوالدين؛ لهذا أولَى الإسلام اهتماماً كبيراً ببرِّ الوالدين، فالولد البارُّ بوالديه يستطيع أن يقوم بالحقوق، والواجبات المتفرعة عن هذا الحق.

عندما تكلم الإسلام عن البر تكلم عنه بكلمةٍ جامعةٍ لكل أنواع البر، وبالمقابل عندما تكلم عن العقوق تكلم عنه بكلمة جامعة أيضاً لكل أنواع العقوق فقال تعالى: ﴿وبالوالدين إحساناً﴾ [الإسراء 23]، وبالمقابل قال: ﴿ولاتقل لهما أف﴾ [الإسراء 23]، فهما عنوانان عريضان دخل فيهما كل برٍّ، وكل عقوقٍ، فكل برٍّ دخل تحت كلمة إحساناً، وكل عقوقٍ داخل تحت كلمة: أف.

كثيرٌ من الأولاد لايميِّزُ بين ماهو من العقوق، وبين ماهو من البر؛ لهذا نرى الشاب يرفع صوته في وجه والديه، ولايدرك أثر هذا الفعل، وكم له من أثرٍ سلبي كبير في مسألة عقوق الوالدين؛ لهذا لابد من تحديد:

 الأسس التي جعلها الله أساساً لبرِّ الوالدين:

  • الأساس الأول: الله عزوجل جعل رضاه مقروناً برضا الوالدين؛ فرضا الوالدين؛ يحقق رضا الله.

روى ابن ماجه: أنَّ رجلًا أمرَه أبوهُ أو أمُّهُ شَكَّ شعبةُ أن يطلِّقَ امرأتَه فجعلَ عليهِ مائةَ محرَّرٍ، فأتى أبا الدَّرداءِ فإذا هوَ يصلِّي الضُّحى ويطيلُها، وصلَّى ما بينَ الظُّهرِ والعصرِ، فسألَه، فقالَ أبو الدَّرداءِ، أوفِ بنذرِك وبِرَّ والديكَ، وقالَ أبو الدَّرداءِ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: «الوالدُ أوسَطُ أبوابِ الجنَّةِ فحافِظ علَى والديكَ أوِ اترُكْ»، وفي رواية «فإن شئت فأضِع ذلك الباب أو احفظه» [1]

البر سبب لكل توفيق في الدنيا والآخرة؛ والعلة في هذا: أن الله يوفق الإنسان البار بأعمال صالحةٍ يكرمه الله بها؛ تكون سبباً لدخوله الجنة، وتوفيقه، وأما العاق: فعقوقه يبعده عن فعل الصالحات؛ الذي يتسبب بفعل المحظورات فتكون سبباً في عقوبة الله عزوجل. 

  • الأساس الثاني: أحياناً تتزاحم الواجبات على الولد فيقدم ما حقه التأخير، ويؤخر ما حقه التقديم؛ فنجد مثلاً: ولداً له والدان كبيران بالسن يحتاجاجان لمن يقدم لهما يد العون والمساعدة وليس لهما غير هذا الولد، ومع هذا نجد أن الولد يترك والداه المحتاجان ليذهب لأداء العمرة، أو غيرها من أعمال البر.

الإنسان العاقل يوازن بين الواجبات؛ فيقدم الوظيفة التي أوجبها الله عليه في الوقت (واجب الوقت) على غيرها من الواجبات؛ لأن عبادة الله ليست شهوةً، بل هي استجابةٌ لما يرضي الله عزوجل، والمسلم الحق يقدم مرضاة الله على رغبات النفس، و يقدم الأهم على المهم.

إن بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله في بعض الحالات، والمعروف أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام.

جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، يَسْتَأْذِنُهُ في الجِهَادِ فَقالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَفِيهِما فَجَاهِدْ» [2].

وعن عبدالله بن عمرو قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان فقال: «ارجع عليهما فأضحكهما كما أبكيتهم»[3].

أي ارجع إليهما فهذا جهادك الواجب على أمثالك ؛لأنه ترك لفرض الكفاية، وتقديم لفرض العين.

  • الأساس الثالث: من البر الواجب على الولد تجاه والديه أن يدعو لهما في حياتهما، وبعد وفاتهما بل إن بعض العلماء استحب الدعاء للوالدين دُبُرَ كل صلاة.

 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له»[4].

كان أبو هريرة يمر على أمه إذا دخل أرضَه، وصاح بأعلى صوتِه: (عليك السلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه يا أمَّتاه، تقول: وعليك السلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، يقول: رحمكِ اللهُ كما ربَّيتِني صغيرًا، فتقول: يا بني وأنت فجزاك اللهُ خيرًا ورضيَ عنك كما بررْتَني كبيرًا) [5].

  • الأساس الرابع: حق الأم مقدم على حق الأب: قال تعالى: ﴿ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً﴾ [الأحقاف 15].

جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك»[6]

نفهم من هذا: أن حق الأم مقدم على حق الأب؛ والسبب أن الأب يستطيع بشخصيته وقوته أن يحافظ على حقوقه ويحميها، بينما الأم بضعفها، وعاطفتها الغالبة،  واحتكاكها الدائم مع أولادها يُضْعِف حقها، أضف إلى ذلك: قد ينشب خلافٌ بين الوالدين أمام الأولاد، فيَنْتَقِصُ الزوج من مكانة الأم؛ مما يشجع الابن على التمادي في حق أمه، فمن واجب الأب تعظيم مهام الأم، وما تقوم به من أعباء كثيرة، من تربيةٍ، وعنايةٍ، وجهدٍ في أعمال البيت، وعلى الأب أن يخبر ولده الناجح أن سبب نجاحه هو أمه؛ لما بذلته له من جهد ليحقق النجاح.

مهمة: تقع بعض الأمهات بخطأ؛ عندما تظن أن ولدها لها وحدها؛ فتنسى شخصية ولدها، وكيانه، وأن له رأياً، وشخصية، وأن هناك شخصٌ آخر سيهتم به أيضاً، ويأخذ حيزاً من وقته، وهو الزوجة، والأولاد، وبالمقابل على الابن أن يراعي مشاعر أمه، وأن يعرف أن حق أمه مقدَّمٌ على حق زوجته بل وأولاده. 

  • الأساس الخامس: أن يتعرف الولد على آدابه مع والديه: تلك الآداب والأذواق التي غابت عن أبنائنا، فمن هذه الآداب:
  1.  ألا تمشي أمام والدك، وألا توازيه في المشي، بل أن تتأخر خطوة إلى الوراء.
  2.  ألا تسمح لأحدٍ أن يفصل بينك، وبين والدك بالمشي.
  3.  إطاعة الوالدين في أي أمر، أو قرارٍ يريد اتخاذه، والمشاورة لهما في الأمور.
  4.  خطاب الوالدين بأدب.
  5.  أن يجلس قريباً من والديه؛ لتلبية حاجاتهما على الفور.
  6.  النهوض لهما كلما دخلا فالأب، والأم يفرحان لإكرام ابنهما لهما بالقيام، والتعظيم.
  7.  أن يقبِّلَ يد والديه باستمرار؛ فإن هذا يشعر الوالدين يتقدير ولدهما لهما.
  8.  أن يراقب نظرات والديه، ويلبي طلباتهما دون طلب منهما.
  9.  عدم رفع الصوت أمام الوالدين.
  10.  الإصغاء لحديثهما، وإن كان الولد يعرف هذا الحديث سابقاً.
  11.  عدم مقاطعتهما أثناء الكلام.
  12.  عدم معاقبة الأب ولدَه أمام والديه.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

_________________________________________

[1]: ابن ماجه من حديث أبي عبد الرحمن السلمي 3663، وانظر سنن الترمذي 1900.

[2]: أخرجه البخاري 3004، ومسلم 2549 واللفظ له.

[3]: أخرجه أبو داود 2528، والنسائي 4163، وابن ماجه 2782، وأحمد 6869 باختلاف يسير.

[4]: مسلم 1631.

[5]: الأدب المفرد للبخاري.

[6]: صحيح ابن حبان 434.