سلسلة العهود المحمدية| المقال السابع| العهد الثاني: في طلب اتباع الكتاب والسنة| د. محمود المصري

بسم الله الرحمن الرحيم

2: أخذ علينا العهد العام من رسول الله ﷺ أن نتَّبع السنَّة المحمَّدية في جميع أقوالنا وأفعالنا وعقائدنا، فإن لم نعرف لذلك الأمر دليلًا من الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس؛ توقَّفنا عن العمل [1].

تأتي أهمية اتباع سنَّة النبي ﷺ من كونها عنوانًا على صحَّة الإيمان، كما بيَّن ذلك قوله ﷺ: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» [2].

ومن كونها عنوانًا على محبة الله للعبد، كما يشير قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31]. ومن هذه الأهمية للاتباع يتوضَّح لنا منزلة المتَّبِعين عند الله تعالى والشهادة لهم بالفلاح بقوله: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157].

وقد أدركَ الصحابة رضي الله عنهم قيمة اتباع النبي ﷺ والتزام السنَّة، وكانوا يتحرَّون ذلك في كلِّ حركاتهم وسكناتهم مهما كانت بسيطة. فمما ثبت عن سيدنا عمر بن الخطاب قوله، عندما قبَّل الحجر الأسود: “إني لأعلم أنَّك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبِّلك ما قبَّلتك” [3].

وها هو عبد الله بن عمر يصلِّي محلولةً أزراره، فيسأله زيد بن أسلم عن ذلك، فيجيب: “رأيت رسول الله ﷺ يفعله” [4]. وابن عمر نفسه كان في سفر، فمرَّ بمكان فحاد عنه، فسُئل: لم فعلت ذلك؟ فقال: رأيت رسول الله ﷺ فعل هذا ففعلته” [5]. وهو نفسه “كان يأتي شجرةً بين مكَّة والمدينة، فَيَقِيل تحتها، ويُخبر أن النبي ﷺ كان يفعل مثل ذلك” [6].

وقد تنبَّه العارفون بالله إلى أن أسمى ما في الاتباع أن يكون العبد في حضرة الشارع يتلمَّس مواطن مرضاته دائمًا. وفي هذا المعنى يروي الشعراني رحمه الله عن شيخه عليٍّ الخوَّاص قوله: (ليس مراد الأكابر من حثِّهم على العمل على موافقة الكتاب والسنة إلا مجالسةُ الله ورسوله ﷺ في ذلك الأمر لا غير، فإنهم يعلمون أن الحقَّ تعالى لا يجالسهم إلا في عمل شرَعَه هو أو رسوله ﷺ. أما ما ابتُدعَ فلا يجالسهم الحقُّ تعالى ولا رسوله ﷺ فيه أبدًا، وإنما يجالسون فيه من ابتدعه). والمقصود من مجالسة الله ورسوله ﷺ أن يكون في حضرة الله ورسوله على بساط الموافقة يظلِّله الأنس بالله والرضا عن الله والقبول من الله.

ومن هنا كان هؤلاء الأكابر أحرصَ الناس على التمسُّك بالسنَّة وهجر البدعة، عملًا بوصية النبي ﷺ، كما ورد في حديث العرباض بن سارية، قال: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» [7]. والعضُّ بالنواجذ، أي الأنياب، كناية عن التمسُّك بالشيء غاية التمسُّك خوفًا من فواته وتفلُّته.

فمهما وافق العمل السنَّة كان عظيمًا، ولو قلَّ، بينما يفقد العمل قيمته عندما يكون مبتدَعًا مهما كثُر، وقد صحَّ عن النبي ﷺ قوله: «الاقتصاد في السنَّة أحسن من الاجتهاد في البدعة» [8].

وقد بيَّن ﷺ أن التمسُك بالسنة ليس مقتصرًا على عصر الصحابة، وإنما سيكون في أمته من بعده، كما في الحديث: «من أكل طيِّبًا، وعمل في سنَّة، وأمِن الناس بوائقَه (شروره)، دخل الجنّة”، قالوا: يا رسول الله، إن هذا اليوم في أمَّتك كثير، قال: “وسيكون في قرونٍ بعدي”» [9]. فكأنهم يسألون النبي ﷺ فَمَا حَالُ الْمُسْتَقْبَلِ؟ فأجابهم: هُمْ كَثِيرُونَ الْيَوْمَ، وَسَيُوجَدُ مَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي قُرُونٍ بَعْدِي [10]. ومن هنا تضاعف أجر المتمسِّك بالسنَّة آخر الزمن، كما قال النبي ﷺ: «من تمسَّك عن سنَّتي عند فساد أمَّتي فله أجر مئة شهيد» [11]. قال المناوي: وذلك لأن السنة عند غلبة الفساد لا يجد المتمسك بها من يعينه؛ بل يؤذيه ويهينه، فيصبر على ما يناله بسبب التمسك بها من الأذى يجازى برفع درجته إلى منازل الشهداء [12].

ويضيف الشعراني مبيِّنًا أن هؤلاء الأكابر لا يتخلَّون عن هذا المقصد الشريف (الذي هو مجالسة الحقِّ) ويستبدلون به مقصدًا أدنى، فيقول: فعُلِم أنه ليس قصد أهل الله تعالى بعباداتهم حصولَ ثوابٍ ولا غيره في الآخرة؛ لأنهم في الدارين عبيد، والعبد لا يملك شيئًا مع سيِّده في الدنيا والآخرة، إنما يأكل ويلبَس ويتمتَّع بمال سيِّده.. ولو أن الحقَّ تعالى أعطاه شيئًا لوجب عليه التبري منه إلى ربِّه، ولا يجوز أن يشهد ملكه له طرفة عين. فلهذا المشهد خرجوا في جميع عباداتهم عن العلل النفسانية، فرضوا عن ربِّهم رضًا مطلقًا، ورضي عنهم رضًا مطلقًا: ﴿ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الجمعة: 4]. وهذا المشهد العظيم هو الذي قال فيه أبو الحسن الشاذلي رحمه الله يقول: “لا تكمُل عبادة فقير حتى يصير يشاهد المشرِّع في كلِّ عبادةٍ عملها.” وهذا من مشكاة قوله ﷺ: «أن تعبدَ الله كأنك تراه». ومن هنا نفهم قول أبي العباس المـُرسي: لو احتجب عني رسول الله ﷺ ساعة، لما عددت نفسي من جملة المؤمنين.

ويقرِّر الشعراني أنه لا بدَّ لمن يريد العمل بهذا العهد من شيخ صادقٍ يزيل عنه سائر الصفات المذمومة ويحلِّيه بالصفات المحمودة، ليَصلُحَ لمجالسة الله تعالى ورسوله ﷺ.

المصادر المراجع:

  •  جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، لزين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، ت شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 2001م.
  • الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه (صحيح البخاري)، لمحمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، ت محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية)، ط1، 1422هـ.
  • السنَّة، لأبي بكر بن أبي عاصم أحمد بن عمرو الشيباني، ت محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1400هـ.
  • سنن أبي داود، لأبي داود سليمان بن الأشعث السِّجِسْتاني، ت محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت.
  • سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى الترمذي، ت أحمد شاكر (جـ 1، 2) ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3) وإبراهيم عطوة عوض (جـ 4، 5)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2، 1975م.
  • السنن الكبرى، لأحمد بن الحسين الخراساني، أبو بكر البيهقي، ت محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 2003م.
  • شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية، لتقي الدين أبو الفتح محمد بن علي، المعروف بابن دقيق العيد، مؤسسة الريان، ط6، 2003م.
  • صحيحُ ابن خُزَيمة، لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، ت محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط3، 2003م.
  • فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.
  • فيض القدير شرح الجامع الصغير، لزين الدين عبد الرؤوف بن تاج العارفين المناوي، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط1، 1356هـ.
  • كتاب الزهد الكبير، لأحمد بن الحسين أبو بكر البيهقي، ت عامر أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط3، 1966م.
  • لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمَّدية، لأبي المواهب عبد الوهَّاب بن أحمد الشعراني، ت صهيب ملا محمّد نوري علي، دار التقوى، ط1، 2015م.
  • مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، ت حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1994م.
  • مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، لعبيد الله بن محمد المباركفوري، إدارة البحوث العلمية والدعوة والإفتاء، الجامعة السلفية، بنارس الهند، ط3، 1984م.
  • المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري، ت مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1990م.
  • مسند الإمام أحمد بن حنبل، لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ت أحمد محمد شاكر، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1995م.
  • مسند البزار (البحر الزخار)، لأبي بكر أحمد بن عمرو المعروف بالبزار، ت مجموعة من المحققين، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط1، 2009م.
  • المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد اللخمي، أبو القاسم الطبراني، ت طارق بن عوض الله بن محمد وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين، القاهرة.
  • المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله ﷺ، لمسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] العهود المحمَّدية 90.

[2] السنَّة لابن أبي عاصم 1/ 12. قال ابن رجب الحنبلي (جامع العلوم والحكم 2/ 393): حسن صحيح، وقال ابن حجر (الفتح 13/ 289): رجاله ثقات، وقد صحَّحه النووي في آخر الأربعين. وقال ابن دقيق العيد في شرح الأربعين 135: هذا الحديث كقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾.

[3] البخاري في الحجّ (بَابُ مَا ذُكِرَ فِي الحَجَرِ الأَسْوَدِ) 2/ 149، ومسلم في الحجّ (بَابُ اسْتِحْبَابِ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي الطَّوَافِ)، 2/ 925.

[4] ابن خزيمة في الصلاة (بَابُ الرُّخْصَةِ فِي الصَّلَاةِ مَحْلُولَ الْأَزْرَارِ إِذَا كَانَ عَلَى الْمُصَلِّي أَكْثَرُ مِنْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ) 1/ 403، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 340.

[5] أحمد 4870، والبزار 128، وقال الهيثمي في المجمع 1/ 174: رجال البزار موثوقون.

[6] البزار 129، وقال الهيثمي في المجمع 1/ 175: رجال البزار موثوقون.

[7] أبو داود في السنة (بَابٌ فِي لُزُومِ السُّنَّةِ) 4/ 200، والترمذي في أبواب العلم (بَابُ مَا جَاءَ فِي الأَخْذِ بِالسُّنَّةِ وَاجْتِنَابِ البِدَعِ) 5/ 44، واللفظ له، وقال: حسن صحيح.

[8] صححه الحاكم عن عبد الله بن مسعود موقوفًا 1/ 184، وقال الذهبي: على شرطهما.

[9] الترمذي في أَبْوَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالرَّقَائِقِ وَالْوَرَعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 4/ 669، والحاكم في المستدرك 4/117، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه، ووافقه الذهبي.

[10] انظر مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للقاري 1/ 264.

[11] البيهقي في الزهد من حديث ابن عباس 217، والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة، 5/ 315، ح 5414. وقال الحافظ المنذري في الترغيب 1/ 41: إسناده لا بأس به.

[12] فيض القدير 6/ 261.