سلسلة العهود المحمدية| المقال الخامس| العهود المحمَّدية – التعريف بالكتاب| د. محمود المصري

بسم الله الرحمن الرحيم

التعريف بالكتاب

إن كتاب “لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمَّدية”، قد أُخذت أحاديثه كاملةً من كتاب “الترغيب والترهيب” للحافظ المنذري (656هـ) رحمه الله تعالى، الذي كان من أعيان القرن السابع، والذي كان حافظَ عصره بلا منازع، وكان عصرِيُّه الإمام أبو الحسن الشاذلي يقول: “قيل لي: ما على وجه الأرض مجلسٌ في الفقه أبهى من مجلس الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام، وما على وجه الأرض مجلسٌ في الحديث أبهى من مجلس الشيخ زكي الدين عبد العظيم المنذري، وما على وجه الأرض مجلسٌ في علم الحقائق أبهى من مجلسك” [1].

وأما كتاب “العهود المحمّدية” فقد ذكر الشعراني رحمه الله أن الباعث على تأليفه ما رآه من كثرة تفتيش الإخوان على ما نقص من دنياهم، وأنه لم ير أحدًا منهم يفتش على ما نقص من أمور دينه إلا قليلاً، فأخذته الغيرة الإيمانية عليهم، فوضع هذا الكتاب لتنبيههم على تلك النقائص، من خلال نظرهم في هذه العهود، وتأمُّلهم في أنفسهم، ليروا ما أخلّوا به منها، ويتداركوا تقصيرهم.

وقد قسّم الكتاب قسمين:

الأول: في بيان ما أخلّ به الناس من المأمورات. وفيه ستة وخمسون ومئتا عهد.

الثاني: في بيان ما أخلَّ به الناس من اجتناب المنهيات. وفيه ثلاثة وثمانون ومئة عهد.

وأما عن تصدير الإمام الشعراني العهد بقوله: “أُخذ علينا العهد العام من رسول الله ﷺ” فقد أجاب عن ذلك بقوله: “اعلم يا أخي أن رسول الله ﷺ لما كان هو الشيخ الحقيقي لأمَّة الإجابة كلِّها؛ ساغ لنا أن نقول في تراجم عهود الكتاب كلِّها: “أُخذ علينا العهد العام من رسول الله ﷺ”، أعني معشر جميع الأمة المحمَّدية، فإنه ﷺ إذا خاطب الصحابة بأمر أو نهي، أو ترغيب أو ترهيب؛ انسحب حكم ذلك على جميع أمته إلى يوم القيامة، فهو الشيخ الحقيقي لنا بواسطة أشياخ الطريق أو بلا واسطة.

وقد بيّن الإمام الشعراني في مقدمة الكتاب أن مجموع أحكام الشريعة ترجع إلى ثلاثة أمور: أمر، ونهي، ومرغّب فيه أو مرهّب من فعله. فإن الترغيب في فعل شيء مؤذِنٌ بالرضى عن فاعله، كما أن الترهيب من فعل شيء مؤذنٌ بالسخط على فاعله، وإن كان ذلك لم يُلحَق بدرجة الأمر والنهي الصريحَين. واستشهد بعبارة العز بن عبد السلام في قواعده الكبرى: اعلم أن كلَّ فعل مُدح في نفسه، أو مُدح فاعله من أجله، أو وُعِد عليه بخيرٍ عاجل أو آجل، فهو مأمور به؛ لكنه متردِّدٌ بين الإيجاب والندب [2].

ثم إن الشعراني رحمه الله يتحدَّث في مقدِّمة الكتاب عن نقطتين مهمَّتين في السلوك، وهاتان النقطتان الذي ينظرهما سيرى علاقتهما الوطيدة بموضوع الكتاب:

الأولى يتحدَّث فيها عن جانب عمليٍّ في التسليك، وهو التربية الخاصة للمريدين، فقد يأخذ الشيخ على المريد العهد بترك بعض المباحات، زيادةً على التزام الأمر والنهي، وذلك طلبًا لترقّيه، وعلَّل ذلك بأن المباح لا ترقي فيه من حيث ذاته، وإنما هو أمرٌ برزخيٌّ بين النهي والأمر، ويبين أن الحكمة فيه أن جعله الله مرتبةَ تنفيسٍ للمكلَّفين يتنفَّسون به من مشقَّة التكليف، إذ الإقبال على الله تعالى في امتثال الأمر واجتناب النهي على الدوام ليس من مقدور البشر، فأراد أهل الله تعالى للمريد أن يقلِّل من المباح جُهدَه، ويجعلَ موضعه فعل مأمورٍ، أو اجتناب منهيٍّ، لأخذهم بالعزائم دون الترخيصات، فترى أحدهم يفعل المندوب، مع شدَّة الاعتناء به كأنه واجب، ويجتنب المكروه كأنه حرام، ويترك المباح وكأنه مكروه، ويفعل الأولى كأنه مستحَبٌّ، ويستغفر من فعل المكروه كأنه حرام، ويتوب من فعل خلاف الأولى كأنه مكروه، ويتوب من ترك المندوب كأنه واجب.

ثم يخلُص رحمه الله من ذلك إلى صياغة نظرية التربية الخاصة عند أهل الله المتمثِّلة في أنهم “لا يوجَدوا إلا في فعل واجب، وما أُلحق به من المندوب والأولى، أو في اجتناب منهيٍّ، وما أُلحق به من المكروه وخلاف الأولى”. ومن هنا فإن الشعراني يحذِّر من الاعتراض على الشيوخ بأخذ العهد على مريديهم بترك المباح. ويستشهد على التربية الخاصة بفعل النبي ﷺ مع السيدة عائشة رضي الله عنها، فقد نهاها عن أكلتين في يوم واحد، وقال: أكلتان في النهار سَرَف، والله لا يحب المسرفين [3].

والنقطة الثانية تتمثَّل في إجماع أهل الله تعالى أنه لا يصحُّ دخول حضرة الله تعالى في صلاة ولا غيرها إلا لمن تطهَّر من سائر الصفات المذمومة ظاهرًا وباطنًا، بدليل عدم صحَّة الصلاة لمن صلَّى وفي ثوبه أو بدنه نجاسةٌ غير معفوٍّ عنها، أو ترك لمعةً من أعضائه بغير طهارة، فصلاته صورية لا حقيقية، كما أن من احتجب عن شهود الحقِّ تعالى بقلبه في لحظة من صلاته بطلت صلاته عند القوم. فالنبي ﷺ يقول: إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم [4].

ولمـّا كان الخروج من الصفات المذمومة المانعة من دخول حضرة الله تعالى بالقلب واجبًا؛ فقد أجمع القوم على اتخاذ الشيخ الذي يساعد السالك على ذلك واجبًا؛ إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومما لا شكَّ فيه أن علاج أمراض الباطن من حبِّ الدنيا والكِبر والعجب والرياء والحسد والحقد والغلّ والنفاق ونحوها؛ كلُّه واجب، كما تشهد له الأحاديث الواردة في تحريم هذه الأمور. ومن هنا فإن الشعراني يوجب الدخول في طريق القوم للتخلص من هذه الآفات الباطنة، ويبيّن أن طريقَهم كلَّها أخلاقٌ محمَّدية، سُداها ولحمتها منها [5].

 

المصادر والمراجع:

  •       حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، لجلال الدين السيوطي، ت محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية – عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر، ط1، 1967م.
  •       شعب الإيمان، لأحمد بن الحسين بن علي الخُسْرَوْجِردي الخراساني البيهقي، ت عبد العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند، ط1، 2003م.
  •       قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة، 1991م.
  •       لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمَّدية، لعبد الوهّاب الشعراني، ت صهيب ملا محمد نوري علي، دار التقوى، ط1، 2015م.
  •       المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د ت.

___________________________________________________

[1] حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطي 1/ 315.

[2] العهود المحمدية للشعراني 1/ 76. وانظر قواعد الأحكام في صالح الأنام للعز بن عبد السلام 286.

[3] العهود المحمَّدية للشعراني 1/ 79. والحديث أخرجه البيهقي في الشعب 7/ 457.

[4] أخرجه من حديث أبي هريرة مسلم، في كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، بَابُ تَحْرِيمِ ظُلْمِ الْمُسْلِمِ، وَخَذْلِهِ، وَاحْتِقَارِهِ وَدَمِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَالِهِ 4/ 1986.

[5] العهود المحمَّدية للشعراني 1/ 83.