سلسلة العهود المحمدية| المقال الثاني| ترجمة الإمام الشعراني- الإمام الشعراني والمجتمع| د. محمود المصري

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تعدّ آثار الشعراني وثائق بالغة الأهمية تنعكس في مرآتها الصورة الاجتماعية والثقافية للقرن العاشر الهجري، والأكثر من ذلك أن حياته كانت مفعمة بالتفاعل مع مجتمعه، وكان من أكبر الشخصيات التي أثَّرت في واقعها. وهذا ماجعل المستشرق فولرز يصفه بأنه الإصلاحي الذي لا يكاد الإسلام يعرف له نظيرًا [1].

  • أولا: الأوضاع الاجتماعية في عصر الشعراني: عاش الشعراني في القرن العاشر الهجري تحت ظلِّ دولة المماليك ثم الدولة العثمانية. وقد عاصر سبعة من سلاطين المماليك، فشا في عصرهم الظلمُ والركود الاقتصادي. ولا تزال تسوء الأحوال إلى أن انتهى أمر المماليك بانتصار السلطان العثماني سليمٍ الأول. وعلى الرغم من استمرار تدهور الأحوال العامة الاجتماعية والاقتصادية عمومًا إلا أن الأزهر بقي على استمراره بالعطاء.

فقد ساد المجتمع المصري آنذاك طبقتان: الأولى طبقة الحكام وأصحاب النفوذ والسلطة والتجار الذين بيدهم المال، والثانية طبقة باقي أفراد الشعب الذين كانوا يعانون من الظلم والقهر بأنواعه الاقتصادية والاجتماعية، وأدّى ذلك إلى انهيار القيم في المجتمع. وفي ظلِّ هذه الظروف أقبل الناس على التصوف جاهلين بحقيقته، فأدخلوا فيه كثيرًا من الأوهام والخرافات المتناسبة مع الجهل العام السائد في المجتمع [2].

  • ثانيا: مواقف الشعراني من قضايا مجتمعه: كانت مهمَّة الشعراني في مجتمعه رفع الروح المعنوية، والسير في طريق الإصلاح، والذي يريد أن يتصدّى لهذه الوظيفة الاجتماعية الخطيرة لا بدَّ له من أن يدرك البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، ويدركَ الرسالة التي يريد إيصالَها للناس والحكام، ويحيطَ بالطريق الأمثل الذي عليه أن ينتهجه للوصول إلى ذلك، وقد توفَّر للشعراني من العلم والفهم والحكمة والصفات الشخصية المميَّزة والخبرة بنفوس الناس وبما يُصلح قلوبهم ما جعله مؤهَّلا لتلك المهمَّة بحقٍّ.

فبالنسبة للسلطة كان ما عرف به الشعراني من العلم والتقوى والصلاح والتزام الحقِّ وعدم المداهنة للحكام كافيًا لأن يستجلب محبَّةَ القائمين على الأمور وتعظيمَهم له واعتقادَ الولاية فيه، مثل السلطان قانصوه الغوري وطومان باي، وكذلك كان جميع نواب السلطان العثمانيين من بعدهم. وقد سخَّر الشعراني ذلك كلَّه لقضاء حوائج الناس والتخفيف من معاناتهم والشفاعة لهم [3].

كان الشعراني يتواضع لمن يزوره من الأمراء أو القضاة أو ذوي المناصب، لأن هؤلاء لا يزورونه إلا معتقدين به، قد خلعوا كبرياءهم ومرتبتهم عند زيارته ليتبرَّكوا به، غير أن هذا لا يمنعه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربما كان في منتهى الشدة عليهم عندما يقصدهم هو في أمر فيه صلاح للناس، وكان لا يقصدهم إلا لذلك أو لطلب شفاعة. وقد خاطبه علي باشا الوزير الأعظم مرة فقال: نحن مقرَّبون إلى السلطان، أليس لك حاجة عنده، فأجابه الشعراني في شدَّة: نحن مقرَّبون إلى الله، أليس لك حاجة عنده؟ فسكت الباشا ولم ينطق بشيء [4].

وكانت شفاعات الشعراني كلها من مكان القوَّة والتعزُّز، تظهر لذوي النفوذ أن المستشفِع صاحبُ حقٍّ عندهم وعليهم أن يؤدُّوا الحقَّ لأهله، فهو لا يستشفع من محلِّ ضعفٍ واستعطاف، وقد ساعد على ذلك عدم قبول هداياهم [5]. وكان للاستجابة من ذوي النفوذ دافعان: الأول المحبة، والثاني الهيبة ومعرفة قدر المستشفِع، ومَن خلفه ممن يحبُّه من الناس، فكأنهم بذلك يشترون رضا الناس. وهكذا استطاع الشعراني أن يجمع بين طرفي معادلة صعبة تتلخَّص بعدم التملُّق للحكام من جهة، وكفِّهم عن الظلم ما أمكن من جهة أخرى.

أما رسالة الشعراني الإصلاحية المتعلِّقة بعامة الناس فتتلخَّص ببناء الفرد المستقيم على الشريعة المنوَّر القلب، وكان طريقه إلى ذلك التربية والسلوك والقدوة الصالحة. ووضع لتلامذته ومريديه في الزاوية برنامجًا متكاملاً يحقِّق هذه الأغراض لا يحتاجون بعده لمزيد. وكان ينبِّههم إلى أن ترك التكسُّب المشروع جهلٌ بمقام التوكل، ويقول لهم: الاجتهاد في العمل وإتقانه يقدَّم على النوافل والتطوع للعبادة. وكان يسعى دومًا للإصلاح بين الناس [6].

  • ثالثا: الدسُّ على الشعراني في كتبه:

الدسُّ على العلماء في كتبهم قديم سلكه أعداء الدين لتكريس الفرقة بين المسلمين، أو أصحاب البدع للتنقيص من مخالفيهم. وأول من ابتدع ذلك الذين وضعوا الأحاديث على رسول الله ﷺ من والزنادقة وأصحاب البدع.

وعندما نرى تناقضًا بين كلامَين لأحد العلماء الأئمة الكبار الأعلام الذين شهدت لهم الأمة بالعلم والتقوى والورع ونصرة الدين وخدمته، وشهد لهم ما ألَّفوه وصنَّفوه بوافر العلم والعرفان والاستقامة على المنهج الرباني وسنة المصطفى ﷺ، أحدهما يؤكِّد فيه على الميزان الشرعي، وثانيهما فيه مخالفة واضحة للشرع الشريف لا تقبل تأويلا؛ فلا شكّ عند العاقل المنصف أن القول الأول الثابتَ عنه المبثوث في مؤلَّفاته يحكم على الثاني بأنه مردودٌ وبأنه مما دُسَّ عليه. وثمّة أمر في غاية الأهمية يجب التنبه إليه، وهو أن عدم فهم اصطلاحات القوم لدى المنكر، يكون سببًا في معاداتهم والنيل منهم، فيأتي من يُحسن الظنَّ بهم، ليقول: إن هذا مدسوسٌ عليهم.

ولو نظرنا إلى الإمام الشعراني الذي كان من تلامذة كبار فحول العلماء في عصره، وكانت تلامذته من كبار علماء الأمة في عصرهم، فهل يُعقل أن يدخل على مثله تخريفاتٌ لا تنطلي على صغار طلبة العلم؟

ثم إن الشعراني كان يشنِّع على مخالفة الشريعة في أمور أقل بكثير مما دُسَّ عليه، وهذا التناقض يكفي لإبطال ما دُسّ عليه مما هو مخالف للشريعة، وهذا ما رأيناه في كتابه: تنبيه المغترين. كذلك فعدم توافق النسخ المخطوطة مع بعضها في هذه النقول يؤكِّد الدسّ، على أنه يجب التنبُّه إلى أن قدم المخطوط ليس مرجحًا لخلوِّه من الدسِّ، فقد ذكر الشعراني عن الدسِّ عليه في كتبه في حياته [7].

وثمّة أمر في غاية الأهمية يجب التنبه إليه، وهو أن عدم فهم اصطلاحات القوم لدى المنكر، يكون سببًا في معاداتهم والنيل منهم، فتكون غايتهم من الدسِّ اتهامه بأنه يؤثر علم الباطن على الظاهر، وفي الحقيقة الذي يقرأ آثار الشعراني يرى أن كلَّها تنطق بأن الشريعة والحقيقة وجهان لشيء واحد، هو الشرع الشريف. لكن الشعراني كان يؤكد دائمًا أن العلم الذي لا يُثمر عملًا لا قيمة له، وأن العمل الذي لا روح فيه لا ثمرة له، ولا يعني هذا تقليلًا لشأن علم الشريعة، غير أنه كان ينصح العلماء بعدم الاقتصار على وقوفهم مع ظاهر العلوم، ولذا كان يقول: “من أتعب نفسه في جمع العلوم من غير أن ينظر في دلالاتها على الله عزَّ وجلَّ فاته المقصود الأعظم منها، وحُجب عن موضع الدلالة التي فيها على الحقِّ جلَّ وعلا”. ويتابع بأن هذا الصنف هو الذي ذمّه العارفون، وقالوا إن علوم هؤلاء حجاب، لحجبهم بها عن ربّهم، ولو أنهم نظروا فيها من حيث الوجه الدالّ على الحق لم تحجبهم عن ربّهم، ولنالوا درجات العارفين”. ويكفي للردِّ على ادعاء وجود مخالفات لظاهر الشريعة في كتب الإمام الشعراني، والتأكيد على أن ذلك لو وجد فهو مدسوسٌ عليه؛ أن هذه المؤلفات قد قرّظها وامتدحها كبار علماء عصره [8].

المصادر والمراجع:

  •       تاريخ ابن إياس (بدائع الزهور فى وقائع الدهور)، لمحمد بن أحمد بن إياس الحنفي، ت محمد مصطفى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984م.
  •       التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق، لزكي المبارك، دار الكتب والوثائق القومية، ط1، 2009م.
  •       الخطط التوفيقية الجديدة، لعلي باشا مبارك، المطبعة الكبرى الأميرية، ط1، 1305هـ.
  •       سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي لعبد الملك العصامي المكي، ت عادل أحمد عبد الموجود- علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1998م.
  •       شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لعبد الحي بن أحمد ابن العماد العَكري الحنبلي، ت محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق _ بيروت، ط1، 1986م.
  •       الطبقات الكبرى المسمى لواقح الأنوار القدسية في مناقب العلماء والصوفية، لعبد الوهاب الشعراني، مكتبة الثقافة الدينية، 2005م.
  •       لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق، لعبد الوهاب الشعراني، اعتنى به أحمد عزو عناية، دار التقوى، 2004م.
  •       مصر في القرون الوسطى من الفتح العربي إلى الفتح العثماني، علي إبراهيم حسن، مكتبة النهضة المصرية، 1947م.
  •       المنح السنية على الوصية المتبولية، لعبد الوهاب الشعراني، صححه عاصم الكيلاني، دار الكتب العلمية، بيروت، 2013م.

___________________________________________________

[1] انظر التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق لمبارك 1/ 50.

[2] انظر سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي لعبد الملك العصامي المكي، الجزء 4، وتاريخ ابن إياس 548، 995، ومصر في القرون الوسطى من الفتح العربي إلى الفتح العثماني لحسن 498.

[3] انظر لطائف المنن 335، 824، وشذرات الذهب لابن العماد 10/ 546.

[4] المناقب الكبرى 131.

[5] لطائف المنن 187.

[6] انظر المنح السنية على الوصية المتبولية للشعراني 16، 17، والخطط التوفيقية 14/ 111، 112.

[7] انظر لطائف المنن للشعراني 89، 762 وما بعد.

[8] المصدر السابق، 107، 93-99.