سلسلة العهود المحمدية| المقال التاسع والأخير| العهد الرابع: في طلب تعلُّم العلم وتعليمه| د. محمود المصري

بسم الله الرحمن الرحيم

4: أخذ علينا العهد العام من رسول الله ﷺ أن ندمن مطالعةَ كتب العلم وتعليمَه للناس ليلا ونارًا، ما عدا العبادات المؤقتة والحوائج الضرورية [1].

يكفي في فضل طلب العلم شهادةٌ وردتنا بحقِّ العالم من الحقّ جلَّ جلاله بقوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر: 28]. وبشارة وردتنا بحقِّه من النبي ﷺ بقوله: «مَن يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» [2]. فالنبي ﷺ يبشِّر العالم بأن الله لو لم يُرد به خيرًا لما فقَّهه في الدين وجعله عالما، والله يشهد للعلماء بالخشية؛ لأنه كلما كانت المعرفة بكمالات الله أتمَّ كانت الخشية أعظم. ولهذا فإن النبي ﷺ ربط بين البشارة والشهادة، حيث ورد في روايةٍ لهذا الحديث عند الطبراني الجمع بينهما: (مَن يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، و﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [3].

وقد اشتهر عن الإمام الشافعي أن طلب العلم على وجه الإخلاص أفضلُ من صلاة النافلة. وكان يقسم الليل ثلاثة أجزاء: جزءًا ينام، وجزءًا يطالع الحديث ويستنبط، وجزءًا يتهجَّد، وكان يقول: “لولا مذاكرة الإخوان في العلم، والتهجُّد في الليل؛ ما أحببت البقاء في هذه الدار” [4]. وهذا الذي اشتهر عن الشافعي أصله من قوله ﷺ، كما روى الطبرانيُّ والبزار بإسناد حسن: «فضلُ العلم خيرٌ من فضلِ العبادة، وخير دينِكُمُ الورع» [5]. وهذا ما مشى عليه السلف الصالح، فها هو التابعيُّ الجليل مُطرِّفُ بنُ عبد الله بنِ الشِّخِّير يقول: “قليلُ العلم خير من كثيرٌ العبادة، وكفى بالمرء فقهًا إذا عبد الله، وكفى بالمرء جهلًا إذا عُجِب برأيه” [6].

وكلُّ هذا منهم كان يعبِّر عن التوجيه المحمَّدي ﷺ في قوله: «لأن تغدو فتعلمَ آية من كتاب الله تعالى خيرٌ لك من أن تصلي مئة ركعة، ولأن تغدو فتعلمَ بابًا من العلم عُمل به أو لم يُعمل به؛ خيرٌ لك من أن تصلي ألف ركعة» [7].

يقول الشعراني رحمه الله: واعلم أن الشارع ﷺ ما نوَّع العبادات المتفاضلة إلا لعلمه ﷺ بحصول الملل للعاملين، ولو في الأمور الواجبة، فإذا حصل الملل فيها انتقلوا إلى واجب آخر، أو إلى ذلك الأمر المفضول، فإذا حصل الملل منه كذلك انتقلوا لمفضول آخر أو فاضل أو أفضل، ما لم يجدوا في نفوسهم مللا فيه.

فعُلم أن سبب تنوُّع المأمورات إنما وجود الملل فيها إذا دامت، فلو تُصوِّر إنسانًا لم يمَلَّ من الواجبات، أو مما هو أفضل؛ لأمره ﷺ بملازمتها، وترك الأمور المفضولة جملة؛ لأنه ما تقرَّب المتقرِّبون إلى الله تعالى بمثل أداء ما افترضه عليهم، ولكن لما كان يحصُل لهم الملل من ذلك الواجب، حتى لا يبقى في نفس العامل داعيةٌ ولا خشوعٌ ولا لذَّةٌ بتلك العبادة؛ كان العملُ المفضول الذي فيه داعيةٌ ولذَّة وخشرعٌ أتمَّ وأكمل.

غير أن العلماء طالما كانوا ينبَّهون في طلب العلم على أمرين: الأول أن العلم يُطلب على جهة الإخلاص، والثاني أنه يُطلب للعمل به، فإن لم يكن ذلك فالأولى الاشتغال بما صلُحت به النية من الطاعات.

يقول الشعراني رحمه الله في الإخلاص بالعلم: واعلم أن جميع ما ورد في فضل العلم وتعليمه إنما هو في حقِّ المخلصين في ذلك، فلا تغالط في ذلك، فالناقد بصير.

أما العمل بالعلم فقد نُقل عن داود الطائي رحمه الله قوله: طالب العلم كالمحارب، فإذا أفنى عمره في تعلُّم كيفية القتال، فمتى يقاتل؟ ويقول الشعراني: من جملة العمل بالعلم توبة العبد واستغفاره إذا وقع في معصية، فإنه لولا العلم ما عرف أنها معصية، ولا تاب منها.

وقد شبَّه النبي ﷺ العالم الذي لا يعمل بعلمه، فينتفع الناس بعلمه ولا ينتفع هو به؛ بالأرض الأجادب التي «أمسكت الماء فنفع الله تَعَالَى بهَا النَّاس فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسقوا وزرعوا» [8]. فهذه الأرض تمسك الماء لنفع غيرها؛ لكنها لا تتشرب بهذا الماء وتتشبَّع به لتنبت وتُثمر. كما أنه سيكون من جملة الرجال الفجرة الذين يؤيِّد الله بهم الدين، كما في قوله ﷺ: «إن الله ليؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر» [9].

أما إخلاص النيَّة بالعلم فجزاؤه في الآخرة الجنَّة، كما صرَّح بذلك الحديث الصحيح: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا؛ سهَّل الله تعالى له به طريقًا إلى الجنَّة» [10]. وفي الدنيا ورد بعض جزائه في قوله ﷺ: «إن الملائكة لَتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالِم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر» [11].

وقوله: «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم» يتأول على وجوه، أحدها -كما قال الخطابي رحمه الله- أن يكون وضعُها الأجنحة بمعنى التواضع والخشوع تعظيمًا لحقّه وتوقيرًا لعلمه، ومنها: أن يكون كناية عن المعونة وتيسير السعي له في طلب العلم [12]. قَالَ الْقَاضِي: شَبَّهَ الْعَالِمَ بِالْقَمَرِ، وَالْعَابِدَ بِالْكَوَاكِبِ، لِأَنَّ كَمَالَ الْعِبَادَةِ وَنُورَهَا لَا يَتَعَدَّى مِنْ الْعَابِدِ، وَنُورُ الْعَالِمِ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ [13]. 

 

المصادر والمراجع:

  • تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لمحمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت.
  • الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري، ت إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1417هـ.
  • الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه (صحيح البخاري)، لمحمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، ت محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية)، ط1، 1422هـ.
  • جامع بيان العلم وفضله، ليوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي، ت أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، السعودية، ط1، 1994م.
  • سنن ابن ماجه، لمحمد بن يزيد القزويني، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، فيصل عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
  • سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي، ت أحمد محمد شاكر (جـ 1، 2) ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3) وإبراهيم عطوة عوض (جـ 4، 5)، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2، 1975م.
  • شرح السنة، للحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي، ت شعيب الأرنؤوط ومحمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، دمشق وبيروت، ط2، 1983م.
  • شرح صحيح البخاري، لابن بطال علي بن خلف، ت ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 2003م.
  • شعب الإيمان، لأحمد بن الحسين الخراساني، أبو بكر البيهقي، ت عبد العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند، ط1، 2003م.
  • لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمَّدية، لأبي المواهب عبد الوهَّاب بن أحمد الشعراني، ت صهيب ملا محمّد نوري علي، دار التقوى، ط1، 2015م.
  • المجموع شرح المهذب (مع تكملة السبكي والمطيعي)، لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، دار الفكر.
  • مسند البزار (البحر الزخار)، لأبي بكر أحمد بن عمرو المعروف بالبزار، ت مجموعة من المحققين، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط1، 2009م.  
  • المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله ﷺ، لمسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
  • معالم السنن (شرح سنن أبي داود)، لحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي، المطبعة العلمية، حلب، ط1، 1932م.
  • المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد اللخمي، أبو القاسم الطبراني، ت طارق بن عوض الله بن محمد وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين، القاهرة. 
  • المعجم الكبير، لسليمان بن أحمد، أبو القاسم الطبراني، ت حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط2. 
  • ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  • [1] العهود المحمَّدية 100.
  • [2] أخرجه من حديث معاوية بن أبي سفيان: البخاري في العلم (بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ) 1/ 24، ومسلم في الزكاة (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ) 2/ 718. 
  • [3] الطبراني 929 من حديث معاوية بن أبي سفيان.
  • [4] انظر المجموع للنووي 1/ 20.
  • [5] أخرجه من حديث حذيفة بن اليمان: الطبراني في الأوسط 3960، والبزار في المسند 139. 
  • [6] أخرجه البيهقي في الشعب 1704 بإسناد حسن صحيح. 
  • [7] أخرجه ابن ماجه عن أبي ذر في (بَابُ فَضْلِ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) 1/ 79، وحسنه المنذري في الترغيب 1/ 54.
  • [8] البخاري في العلم (باب فضل من علم وعلَّم) 1/ 27، ومسلم في الفضائل (باب بيان مثل ما بُعث به النبي ﷺ) 4/ 1787. وقال بعضهم هذا مثال لمن تحمَّل العلم ولم يتفقَّه، فهو كالأرض الصُّلْبَةِ الَّتِي لَا تُنْبِتُ، وَلَكِنَّهَا تُمْسِكُ الْمَاءَ، فَيَأْخُذُهُ النَّاسُ، وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ. انظر شرح السنة للبغوي 1/ 289. وكذلك قال ابن بطال في شرحه على البخاري: وهذه حال من ينقل العلم ولا يعرفه ولا يفهمه. انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال 1/ 164. 
  • [9] البخاري في الجهاد والسير (بَابُ إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ) 4/ 72، ومسلم في الإيمان (بَابُ غِلَظِ تَحْرِيمِ قَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَأَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي النَّارِ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ) 1/ 105.
  • [10] أخرجه من حديث أبي هريرة: مسلم في كتاب الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ (بَابُ فَضْلِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَعَلَى الذِّكْرِ) 4/ 2074.
  • [11] أخرجه من حديث أبي الدرداء أبو داود في العلم (باب الحثّ على طلب العلم) 5/ 485، والترمذي في أبواب العلم (بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الفِقْهِ عَلَى العِبَادَةِ) 5/ 48، وقال: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة وليس هو عندي بمتصل. ثم أورد له إسنادًا، وقال: هذا أصح، وابن حبان في صحيحه 1/ 289، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/ 168.
  • [12] معالم السنن 4/ 183.
  • [13] تحفة الأحوذي 6/ 481.