سلسلة الأربعون الرمضانيَّة | المقالة العاشرة | د. محمود مصري



          • الباب الثاني: خصوصيات الصيام

 

      •  4- إجابة دعاء الصائم

      • عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ العَادِلُ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الغَمَامِ وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» الترمذي وابن ماجه [1].


    • «الصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ»

هذا الحديث الشريف ينقلنا إلى خصوصيَّة أخرى للصائم، وهي أن له دعوةً مستجابةً أثناء صومه عليه اغتنامها، فيتقرَّب إلى الله تعالى بالذكر والدعاء والابتهال، لاسيما قبل الغروب، ملحًّا في دعائه، واثقًا بالإجابة، متخذًا أسباب إجابة الدعاء، من أكل الحلال والتخلُّق بأخلاق الصائم خصوصًا وأخلاق المؤمن وسماته عمومًا.

 

– يقول المُلّا علي القاري رحمه الله: “قِيلَ: سُرْعَةُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ إِنَّمَا تَكُونُ لِصَلَاحِ الدَّاعِي، أَوْ لِتَضَرُّعِهِ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهِ تَعَالَى” [2]. قَالَ تَعَالَى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل: 62].

وفي رواية في ابن حبّان ومسند الحارث: «وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ» [3].

– قال المُلّا علي القاري: “لِأَنَّهُ بَعْدَ عِبَادَةٍ وَحَالِ تَضَرُّعٍ وَمَسْكَنَةٍ” [4]. أما رواية الترمذي وابن ماجه: «الصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ» معناها: إلى أن يفطر، فيستحبُّ للصائم أن يدعو في حال صومه بمهمَّات الدنيا والآخرة، من أول يومه إلى آخره؛ لأنه يسمّى صائمًا في كلِّ ذلك.

ثمّ على الصائم أن يحرص على إجابة المؤذِّن، والدعاء بعدها، حيث إن هذا من مواضع إجابة الدعاء، فإذا أفطر دعا بدعاء النبي ﷺ: «ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»” [5]. ودعا بقوله: «اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ، وَعَلى رِزْقِكَ أفْطَرْتُ» [6].

– قال نافع: قال ابن عمر: كان يُقال إن لكلّ مؤمن دعوة مستجابة عند إفطاره، إما أن يُعجل له في دنياه، أو يُدّخر له في آخرته. قال: فكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول عند إفطاره: يا واسع المغفرة، اغفر لي” [7].

وإنما تأكَّد إجابة الدعاء لهذه الأصناف الثلاثة، لصدق أصحابها في الالتجاء إلى الله تعالى بصدق الطلب والانكسار ورقّة القلب.

 

    • أمّا «الإِمَامُ العَادِلُ» فهو الذي يحكم بالعدل والحقِّ، فلا يجور في رعيته، وتخصيص دعوته بالإجابة لأنَّ عدله أفضلُ العبادات؛ وذلك أن عدلَ ساعةٍ يدركُ عبادةَ ستين سنة، كما ورد في الأثر.

وَفِي الطَّبَقَاتِ لِابْنِ سَعْدٍ عَنْ الشَّعبِيِّ، قَالَ: “كَانَ مَسرُوقٌ قَاضِيًا، وَكَانَ لَا يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ رِزْقًا، وَقَالَ: لَأَنْ أَقْضِيَ بِقَضِيَّةٍ فَأُوَافِقَ الْحَقَّ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رِبَاطِ سَنَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ” [8].

– قال الإمام الغزالي رحمه الله مبيّنًا فضل الإمارة، وفي الوقت نفسه خطرها: “أما الخلافة والإمارة فهي من أفضل العبادات إذا كان ذلك مع العدل والإخلاص.. ولم يزل المتَّقون يتركونها ويحترزون منها ويهربون من تقلُّدها، وذلك لما فيه من عظم الخطر إذ تتحرَّك بها الصفات الباطنة، ويغلب النفس حبُّ الجاه ولذَّة الاستيلاء ونفاذ الأمر، وهو أعظم ملاذّ الدنيا، ولهذا الخطر العظيم كان عمر رضي الله عنه يقول: من يأخذها بما فيها؟ [9].

 

    • وأمّا عن «دَعْوَةُ المَظْلُومِ» فمن الواضح أن النبيَّ خصَّها من بين الأمور المذكورة في الحديث بتهويل أمرها وتعظيم شأنها، مؤكِّدًا ذلك بالقسم. قال الطيبي رحمه الله: “استأنف بهذه الجملة «يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الغَمَامِ» [10] الكلام لفخامة شأن دعاء المظلوم، واختصاصه بمزيد القبول، ورفعها فوق الغمام، وفتح أبواب السماء لها مجاز عن إثارة الآثار العلوية وجمع الأسباب السماوية على انتصاره بالانتقام من الظالم، وإنزال البأس عليه”.

وأضاف مبيِّنًا مزيد العناية بها، ومؤكِّدًا إجابتها العاجلة أو الآجلة: “قوله «وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» يدلُّ على أنّه سبحانه وتعالى يمهل الظالم ولا يهمله. قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا﴾ [11].

 

وقد أحسن من قال:

نامت جفونك والمظلوم منتبهٌ        يدعو عليك وعينُ الله لم تنَمِ [12]



جاء في شرح (الإتحافات السنية بالأحاديث القدسيّة): “ولا شكّ أنَّ كلَّ خيرٍ وصلاح داخل في القسط والعدل، وكلّ شرٍّ وفسادٍ داخل في الظلم، والظلم يتفاوت، وبعضه أشد ضررًا من بعض، فهو في جميع أنواعه وأفراده ممنوع، ينفر عنه الطبع السليم، وتأباه الفطرة، وكذلك يمتنع عمومًا من حيث متعلَّقه، سواء كان الظلم ظلمًا لمسلم أو لكافر، قريبٍ أو بعيدٍ، صاحب أو عدو، اعتدى عليك أم لم يعتد. فهو محرَّم في كلّ شيء، ولكلّ أحد. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ﴾ [المائدة: 8]، أي: يحملنَّكم بغض قوم، وهم الكفار على عدم العدل ﴿عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8] [13].

وكذلك الأمر بالنسبة للفاسق لا يُظلَم بذريعة فسقه، ويُكره فسقه؛ لا ذاته، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه» [14].

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل مقام إجابة الدعاء، وأن يؤهّلنا لاتّخاذ أسباب ذلك، وأن يعيننا على نفوسنا، فلا نُحجب برعوناتها عن فضله وكرمه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الترمذي في الدعوات، باب في العفو والعافية 5/ 578، وقال: هذا حديث حسن، وابن ماجه في الصيام، باب الصائم لا تردُّ دعوته 1/ 557.

[2] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4/ 1534.

[3] الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان 16/ 396، ومسند الحارث 2/ 968.

[4] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4/ 1534.

[5] أبو داود في الصوم، بَابُ الْقَوْلِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ 2/ 306، والحاكم في المستدرك 1/ 584، وقال: صحيح على شرط الشيخين.

[6] أخرجه أبو داود مرسلًا في الصوم، بَابُ الْقَوْلِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ 2/ 306.

[7] البيهقي في الشعب 5/ 407.

[8] الطبقات لابن سعد 6/ 82.

[9] إحياء علوم الدين 2/ 324.

[10] الغمام: السحاب.

[11] الكاشف عن حقائق السنن للطيبي 1/ 1717.

[12] انظر الاستذكار لابن عبد البرّ 8/ 618.

[13] الإتحافات السنية بالأحاديث القدسيّة 53.

[14] أحمد 8/ 421، وقال المنذري في الترغيب 3/ 130: رواه أحمد بإسناد حسن.