سلسلة الأربعون الرمضانيَّة | المقالة التاسعة والعشرون | د. محمود مصري



                    • الباب السادس: من أحكام الصيام

 

        •  3: تعجيل الفطور

        • عن سهل بن سعدٍ رضي الله تعالى عنه، أنَّ رسول الله ، قال: «لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ». متفق عليه. [1]

يدلُّنا هذا الحديث الشريف على سنّة من سنن رسول الله في الصيام، وهي تعجيل الفطر، وهو أمرٌ مهمٌّ تظهر فيه العبودية المتمثِّلة بموافقة الشارع، وذلك أن الامتثال في الفطر مثل الامتثال في الصوم، والذي شرع لنا الصوم هو الذي شرع لنا الفطر، فالمعوّل عليه في الحالين الاستجابة للشارع.

والأكثر من هذا فإن الحديث الشريف يجعل من مخالفة السنّة في هذا الأمر علامةً على فساد أمر الناس، وأنهم ليسوا على خير، وذلك أن مخالفة السنّة عمومًا أمارة على ابتعاد الناس عن دينهم، وما ذلك المظهر الذي تجلّى بتأخير الفطر إلا واحدًا من المظاهر الدالّة على ترك السنّة، وبالتالي يدلُّ على فساد الدين. وجهة الفساد هنا أن تمام الصّومِ يكون وقت الفطر، الذي يتحدَّد بانقضاء غروب الشّمس، فالزيادة عليه نقصٌ من جهة أن ذلك تزيُّدٌ على الشرع، وهذا حقيقته اتهام الشرع بالنقص.

ثم إن الموفّق إلى هذه السنّة بشَّره النبي بمحبَّة الله له، كما في الحديث القدسيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ، قال: «قال الله عزَّ وجلَّ: أحبُّ عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا». [2]

 

غير أن ذلك الفساد والشرّ يكون بتعمّد تأخير الفطور، فلو حصل عفوًا دون قصد لا يضرّ.

– قال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله: “المـُرَاعَى نيّة التعجيل لا صورة التّعجيل، ردّاً على من يؤخّره إلى اشتباك النُّجوم احتياطًا على الصوم، حتّى لو اشتغل الرَّجُل بأمرٍ ما عن الفِطْر مع اعتقاد الفِطْر، وقد انقضى الصّوم بدخول اللّيل، لم يدخل في كراهية تأخير الفِطر، وكذلك من اشتغل بأداء عبادة كالصّلاة وغيرها كما فعل عمر وعثمان، فإنّه لا يدخل في كراهية تأخير الفطر.” [3]

– وقد قال بعض العلّماء: إنّ الامساك بعد الغروب لا يجوز، وهو كإمساك يوم الفِطْر ويوم النَّحْر عن الأكلِ. واستدلّوا بقوله ﷺ: «إذا أقبلَ الليلُ وأدبر النّهار وغابت الشّمس أفطر الصائم» [4]. فالمراد به قد صار مُفْطِرًا، فيكون ذلك دلالة على أنّ زمان اللّيل يستحيل الصّوم فيه شرعًا. [5]

– وذكر في فتح الباري عن بعض العلماء أن الحكمة في ذلك ألا يُزاد في النهار من الليل، ولأنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة. [6]

– قال الشيخ نور الدين عتر رحمه الله: “استحباب التعجيل بالفطر محلُّه التثبُّت من دخول وقته، وذلك برؤية غياب قرص الشمس، أو بإخبار عدلٍ واحدٍ رآه أو علم به، أو بالعلامة، مثل المؤذِّن العارف بالوقت، أو التقويم الموثوق. وننبِّه إلى وجوب التحرُّز؛ فقد دخل كثيرًا من التقاويم تغييرٌ في السنوات الأخيرة.” [7]

 

ويسنُّ للصائم الإفطار على الرُّطب أو التمر، أو الماء إذا لم يجد رطبًا أو تمرًا.

فعن سلمان بن عامر الضبِّي رضي الله عنه عن النبي ، قال: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلْيُفْطِرْ عَلَى التَّمْرِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ التَّمْر، فَعَلَى الْمَاءِ فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ». [8]

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن هذا من فعله ، قال: «كان النبي ﷺ يفطر قبل أن يصلّي على رُطَبات، فإن لم تكن رُطَبات فتُميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء» [9]. وهذه الرواية تبيِّن لنا أن إفطار النبي كان قبل صلاة المغرب. وهذا لا يخلُّ بسنّية تعجيل صلاة المغرب؛ لأن ذلك عبارة عن تمرات بسيطة.

 

وتقديم الرُّطبات على التميرات لكونها ألطف على المعدة، واختيارهما لما فيهما من السكّر البسيط الذي هو سريع الامتصاص وسهل الهضم، فيعطي الجسم حاجته من السكّريات بسرعة، فضلا عن المواد الغذائية الأخرى المتكاملة الموجودة فيهما، ويمكن في حال عدم وجودهما البدء الحلويات البسيطة غير الدسمة، لأنها تحقِّق الغرض السابق. أما الماء الذي وصفه الحديث بـ (الطهور) فهو مناسب لتهيئة المعدة للطعام.

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يتحرّى مراد الشارع ويقف عنده في جميع الأحوال، وأن ينفعنا باتباع هدي خير الأنام في سائر التوجيهات والإرشادات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] البخاري في الصوم (بَابُ تَعْجِيلِ الإِفْطَارِ) 3/ 36، ومسلم في الصيام (بَابُ فَضْلِ السُّحُورِ وَتَأْكِيدِ اسْتِحْبَابِهِ، وَاسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِهِ وَتَعْجِيلِ الْفِطْرِ) 2/ 771.

[2] الترمذي في الصوم (بَابُ مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِ الإِفْطَارِ) 3/ 73. وقال: حسن غريب.

[3] المسالك في شرح موطأ مالك 4/ 172.

[4] مسلم في الصيام (بَابُ بَيَانِ وَقْتِ انْقِضَاءِ الصَّوْمِ وَخُرُوجِ النَّهَارِ) 2/ 772.

[5] المسالك في شرح موطأ مالك 4/ 173.

[6] فتح الباري 4/ 199.

[7] إعلام الأنام 2/ 405.

[8] أبو داود في الصوم (بَابُ مَا يُفْطَرُ عَلَيْهِ) 2/ 305، والترمذي في أَبْوَابُ الزَّكَاةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (بَابُ مَا جَاءَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي القَرَابَةِ) 3/ 37، والحاكم 1/ 597، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. ووافقه الذهبي.

[9] الترمذي في أَبْوَابُ الصَّوْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (بَابُ مَا جَاءَ مَا يُسْتَحَبُّ عَلَيْهِ الإِفْطَارُ) 3/ 70. وقال: هذا حديث حسن غريب.