سلسلة الأربعون الرمضانيَّة | المقالة الثامنة والعشرون | د. محمود مصري



 

                  • الباب السادس: من أحكام الصيام

 

        •  2- بركة السحور

        • عن أنس بن مالكٍ رضي الله تعالى عنه، قال: قال النبيُّ : «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً». متفق عليه. [1]

يدلّ الحديث الشريف على فضل السُّحور، وأهميَّته من جهة، وما يترتّب على ذلك الفضل من تعليل الأمر به والحثّ عليه من جهة أخرى، وذلك بكلمات موجزة وفَّت بغرض بيان الفضل والأهميّة من خلال ما يحمله لفظ «بَرَكَةً» من المعاني الغزيرة.

وقد سُمِّي سَحورًا؛ لأنه قرب السَّحَر، وذلك أن وقت السحَر هو آخر الليل قبيل الصبح، وهو الوقت الذي يقع فيه السحور. والسَّحور: اسم لما يُتَسَحَّر به. وقد ورد في رواية: السُّحور، بضمّ السين: مصدر بمعنى التَّسَحُّر.

كما كانوا يسمُّونه الغداء؛ لأنه بدل منه. وقد وردت التسمية من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه يَدْعُو رَجُلا إِلَى السَّحُورِ، فَقَالَ:«هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ». [2]

وفي الحديث الندب إلى تناول طعام السحور وهو أمرُ إرشاد.

– قال ابن المنذر: أجمع العلماء أنه مندوب إليه، ولا إثم على من تركه”. [3]

والبركة هي الخير الكثير الدائم.

– قال الشيخ نور الدين عتر حفظه الله: “وقد أطلقها الحديث، مما يجعلها صالحة للأمور الدنيوية وللأمور الأخروية”.

فمن الخيرات الدنيوية: زيادة النشاط، ومدافعة الضيق الناشئ عن الجوع الزائد، وقوّة البدن.

ومن الخيرات الأخروية: اتباع السنّة، ومخالفة أهل الكتاب فإنهم لا يتسحّرون، والتسبُّب في الذكر والدعاء وقت الإجابة، وتمرين النفس على التهجُّد والعبادة آخر الليل. [4]

وقد ورد أن رسول الله حضّ أمّته على السَّحور ليكون قوّةً لهم على صيامهم، فعن ابن عباس مرفوعًا: «استعينوا بطعام السَّحَر على صيام النهار، وبالقائلة على قيام الليل». [5]

 

ومن مظاهر هذه البركة ما ذكره ابن الملقّن رحمه الله، فقال: “ولا يبعُد أن يكون من جملة بركته ما يكون في ذلك الوقت من ذكر المتسحِّرين وقيام النائمين وصلاة المتهجِّدين، فإن الغالب ممن قام يتسحَّر يكون منه ذكر وصلاة واستغفار، وشبهه مما يثابر عليه في رمضان. وقال عبادة: كان السحور مستحبًّا ولو على ماء، وكان يُقال لها: أكلة بركة.” [6]

ثمّ إن سنّة السَّحور التي سنَّها لنا رسول الله هي من خصائص هذه الأمة، فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله قال: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ» [7]. ويدلُّ الحديث على أن مخالفة اليهود والنصارى مطلب، في كلّ ما يمكن المخالفة فيه؛ لتتميّز شخصية المسلم، ويكون سلوكه الظاهر عنوانًا على توحيده الباطن الذي تفرّد به عمّن سواه من المنتسبين إلى الملل والنحل الأخرى.

 

ويحصل السَّحور بأقل ما يسمّى طعامًا أو شرابًا، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : «السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلاَ تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ». [8]

ومما سنّه لنا رسول الله تناول التمر على السحور، كما حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «نعم سحور المؤمن التمر». [9]

وكذلك فقد سنّ لنا رسول الله تأخير الفطور، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه كان يقول: «لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر». [10]

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يغتنم وقت السَّحَر فيما سنَّه لنا رسول الله ، امتثالًا لأمره، ليعود علينا بالبركة التي وعدَ رسول الله .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] البخاري في الصوم (بَابُ بَرَكَةِ السَّحُورِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ) 3/ 29، ومسلم في الصيام (بَابُ فَضْلِ السُّحُورِ وَتَأْكِيدِ اسْتِحْبَابِهِ، وَاسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِهِ وَتَعْجِيلِ الْفِطْرِ) 2/ 770.

[2] ابن خزيمة في الصوم (بَاب ذِكْر الدَّلِيلِ أَنَّ السَّحُورَ قَدْ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْغَدَاءِ) 2/ 932. وللحديث شاهد من حديث المقدام بن معدي كرب، وعائشة، وأبي الدرداء، وعمر بن الخطاب.

[3] التوضيح لابن الملقن 13/ 132.

[4] إعلام الأنام 2/ 406.

[5] أبو داود في الصوم (باب من سمَّى السَّحور الغداءَ)، وابن خزيمة في الصوم (بَاب الْأَمْرِ بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَى الصَّوْمِ بِالسَّحُورِ) 2/ 905. والحاكم 1/ 588. وقال: زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ وَهْرَامٍ لَيْسَا بِالْمَتْرُوكَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يُحْتَجُّ بِهِمَا، لَكِنَّ الشَّيْخَيْنِ لَمْ يُخَرِّجَا عَنْهُمَا وَهَذَا مِنْ غُرَرِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ. 

[6] التوضيح 13/ 143.

[7] مسلم في الصيام (بَابُ فَضْلِ السُّحُورِ وَتَأْكِيدِ اسْتِحْبَابِهِ، وَاسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِهِ وَتَعْجِيلِ الْفِطْرِ) 2/ 770.

[8] أحمد 4/ 1678. قال المنذري في الترغيب 2/ 90: إسناده قوي. 

[9] أبو داود في الصوم (بَابُ مَنْ سَمَّى السَّحُورَ الْغَدَاءَ) 2/ 302.

[10] أحمد 35/ 399. ويشهد له حديث ابن عباس: (إنا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نؤخر سحورنا). قال الهثيمي في “المجمع” 2/ 105: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.