سلسلة الأربعون الرمضانيَّة | المقالة الواحدة والعشرون | د. محمود مصري


 

              • الباب الرابع: أخلاق الصائم وسلوكه

 

        • 5- إجابة الصائم الدعوة

        • عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ» مسلم. [1]

لا شكَّ أن إطعام الطعام والدعوة إليه من الفضائل التي دعا إليها الإسلام في كلّ الأوقات، وزاد تأكيدها في مناسبات كثيرة، كوليمة النكاح والعقيقة ورمضان وغير ذلك، وهذا مما يقوّي المحبّة والتآلف بين المسلمين، ويبعث على التراحم بينهم، ويحقِّق تكافل المجتمع وتضامنه.

وقوله: «فَلْيُجِبْ» أي فليحضر الدعوة. قيل وجوبًا، وقيل ندبًا. وقيل: وجوبًا في وليمة العرس، وندبًا في غيرها.

«سئل رسول الله ﷺ: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» [2].

وكما أن الدعوة إلى الوليمة تجمع الأمرين، من إطعام الطعام وإقراء السّلام؛ فإن إجابة الدّعوة كذلك تحقّق الأمرين. وهذا ما فهمه الصحابة رضي عنهم من هذا الحديث المتقدِّم، فعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنه (كان إذا دُعي ذهَب إلى الدَّاعي، فإنْ كان صائمًا دعا بالبركةِ ثمَّ انصرَف، وإنْ كان مُفطِرًا جلَس فأكَل). [3]

 

فالصوم إذًا ليس بعذر لعدم الإجابة. قال النووي: “وكذا قال أصحابنا، قالوا: إذا دعي وهو صائم لزمه الإجابة، كما يلزم المفطر، ويحصل المقصود بحضوره، وإن لم يأكل، فقد يتبرَّك به أهل الطعام والحاضرون، وقد يتجمَّلون به، وقد ينتفعون بدعائه، أو بإشارته أو يتصانون عما لا يتصانون عنه في غيبته.” [4]

وفي إجابة الدعوة المأمور بها في الحديث ما هو ظاهر من تمكين التواصل وإدخال السرور على قلب المسلم، فالداعي قد أحبَّ من المدعو مؤاكلته، وتكون الإجابة بمنزلة مبادلته الرغبة في الاجتماع على الطعام، وهكذا يعمّ السرور كليهما.

وقد وجّه الهدي النبي في مثل هذه الدعوات إلى أمرين اثنين أكّدهما، وحذَّر من مخالفتهما: الأول أن تكون الدعوات للفقراء والأغنياء على حدٍّ سواء لتتحقَّق الغاية السامية منها، والثاني: الحرص على الإجابة من قبل المدعو؛ لما في ذلك ما لا يخفى من جبر الخواطر. قال رسول الله : «بِئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْمَسَاكِينُ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ». [5]

 

لكن لا بأس من التفريق بين الأغنياء والفقراء في المجلس؛ لا في الطعام، فقد دعا ابن عمر في وليمته الأغنياء والفقراء، فجاءت قريش ومعها المساكين، فقال ابن عمر للمساكين: (هاهنا فاجلسوا، لا تفسدوا عليهم ثيابهم، فإنا سنطعمكم مما يأكلون). [6]

 

ومن أجل أن التخلّف عن الدعوة هو معصية كما بيّن الحديث، كانت الإجابة واجبة؛ حتى لو كان المدعو صائمًا، فيذهب إلى الدعوة ويدعو لصاحبها، كما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنهما. فقول النبي في الحديث: «فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ»، أي يدعو، فالصلاة في الحديث بمعنى الدعاء. وهكذا فإن الصائم يذهب إلى الدعوة، لكن إن كان في صيام الفرض فلا يجوز له أن يأكل، لعدم جواز الخروج من الفرض، وإن كان في صيام النفل جاز له الفطر، لا سيما إذا كان يشقُّ على الداعي صومه. وفي كلّ الأحوال يُندب له أن يدعو لصاحب الطعام.

– قال الطيبي رحمه الله: “الضابط عند الشافعي رضي الله عنه أن الضيف ينظر، فإن كان المضيف يتأذّى يترك الإفطار، فالأفضل الإفطار، وإلا فلا.” [7]

– قال في مرعاة المفاتيح: “وفي الحديث أنه لا بأس بإظهار العبادة النافلة، كالصلاة والصوم وغيرهما إذا دعت إليه حاجة، والمستحَبُّ إخفاءها إذا لم تكن حاجة، وفيه الإرشاد إلى حسن المعاشرة وإصلاح ذات البين وتأليف القلوب بحسن الاعتذار عند سببه.” [8]

ويؤيّد أفضلية الإفطار لصائم النفل ما ورد عن أبي سعيد قال: دعا رجل إلى طعام، فقال رجل: إني صائم.

فقال النبي : «دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ وَتَكَلَّفَ لَكُمْ ثُمَّ تَقُولُ: إِنِّي صَائِمٌ؟ أَفْطِرْ، ثُمَّ صُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ إِنْ شِئْتَ». [9]

 

أما إذا تكرّرت الدعوة في أيامٍ متتالية فليس على المدعو الإجابة، لا سيما إذا شعر أن الداعي يرائي بطعامه. وأجاب الحسن رجلًا دعاه في اليوم الثاني، ثم دعاه في الثالث فلم يجبه، وفعله ابن المسيب وحصب الرسول. وفي رواية: قال: أهل رياء وسمعة.

– وقال ابن مسعود: (نهينا أن نجيب من يرائي بطعامه). [11]

 

نسأل الله تعالى أن يخلِّقنا بأخلاق رسول الله ﷺ في الدعوة إلى الطعام وفي إجابة الدعوة إليه. اللهم اهدنا إلى أحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنّا سيّئها فإنه لا يصرف عنّا سيّئها إلا أنت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مسلم في النكاح (باب الأمر بإجابة الداعي إلى الدعوة) 2/ 1054.

[2] البخاري في الإيمان (بَاب إِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الإِسْلاَمِ) 1/ 12.

[3] ابن حبان 12/ 101.

[4] فتح المنعم شرح صحيح مسلم للاشين 5/ 570.

[5] البخاري في النكاح (بَابُ زَوَاجِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَنُزُولِ الْحِجَابِ، وَإِثْبَاتِ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ) 2/ 1048.

[6] إكمال المعلم 4/ 605.

[7] الكاشف عن حقائق السنن 5/ 1618.

[8] مرعاة المفاتيح 7/ 109.

[9] الطبراني في الأوسط 3/ 306. قال في مجمع الزوائد 4/ 53: وَفِيهِ حَمَّادُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ.

[10] التوضيح لشرح الجامع الصحيح 24/ 526.