سلسلة الأربعون الرمضانيَّة | المقالة التاسعة عشرة | د. محمود مصري



 

                • الباب الرابع: أخلاق الصائم وسلوكه

 

          • 3- تفطير الصائم

          • عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا» الترمذي وابن ماجه. [1]

يكشف لنا هذا الحديث الشريف عن سلوك محمود يحثُّ عليه رسول الله في شهر الكرم والجود والإحسان، ألا وهو تفطير الصائم، ويبيّن لنا أنّ من يسلك هذا المسلك يكون شريكًا في الأجر مع الصائم سواءً بسواء، بل إنّ هذا الفضل ينسحب على كل ّمن يفطّر صائمًا، ولو في غير رمضان. وهذا الفضل يتناسب مع الكرم الإلهيّ، وسنّة الحقّ في معاملة خلقه، من حيث مضاعفة الثواب والأجر، ومن حيث المناسبة بين نوعية العمل والثواب عليه، فالجزاء من جنس العمل.

– قال أبو بكر ابن العربي رحمه الله: “إن الله بفضله على الخلق أجرهم على ما ابتلاهم به من الأمر والنهي، لا باستحقاق وجب لهم، ثم زادهم من فضله المضاعفة فيه، ثم زادهم من فضله أن جعل للمعين عليه لغيره مثل أجره لا ينقص ذلك من أجره شيئا.[2]

– قال ابن الجوزي رحمه الله: “فَاجْتَهِدْ أَنْ تَصُومَ رَمَضَانَ سِتِّينَ يَوْمًا.” [3]

 

وقد أطلق الحديث تفطير الصائم دون أن يقيِّده بكميّة ولا نوعيّة ليدلَّ على أن تفطير الصائم المقصود يتحقّق ولو على جرعة ماء. وأما عن الأجر الذي شبَّهه بأجرهم فالمقصود أجر صيامهم، وأما نفي النقص فهو نفي لنقص أجر الصائم، حيث إن الثواب والكرامة لمن فطّره، لم تنقص ثوابه وكرامته عند الله تعالى. ولهذا ينبغي على الصائم أن يجيب دعوة أخيه إذا دعاه للفطور؛ ليكسبه هذا الفضل العظيم، ولما في ذلك إعانة له على أمور الآخرة. وهذا مقيَّد بأن يطعمه من الكسب الحلال، لأن الحرام لا أجر فيه، ففي شرح سنن ابن ماجه: “من فطر صَائِمًا: أَي اطعمه وسقاه عِنْد افطاره من كسب حَلَال.” [4]

 

وفي الحديث حثٌّ للأغنياء على إطعام الفقراء في رمضان، فيشكروا نعمة الله عليهم بسَعَة الرزق، ومن مظاهر شكر تلك النعمة تفطير الصائمين، فيحوزوا أجر صيامهم هم، وأجر صيام الفقراء.

وفي تفطير الصائم خروجٌ عن الدنيا، ولا يخفى ما في ذلك من جهاد النفس، لذلك قرنه رسول الله بالغزو فقال: «من فطر صائمًا أو جهَّز غازيًا فله مثل أجره»، [5] أي أجر كلِّ واحد منهما، فضمُّ الصائم إلى المجاهد؛ لأن الكلَّ جهادٌ: ذلك لجيش الأعداء، والآخر لجيش الشهوات. [6] قال الطيبي: “نظم الصائم في سلك الغازي لانخراطهما في معنى المجاهدة مع أعداء الله، وقدّم الصائم؛ لأن الصوم من الجهاد الأكبر جهاد النفس بكفِّها عن شهواتها.” [7]

 

– قال الطبري رحمه الله: “وفيه من الفقه أن كلَّ من أعان مؤمنًا على عمل برٍّ فللمعين عليه أجرٌ مثل العامل، وإذا أخبر الرسول ﷺ أن من جهَّز غازيًا فقد غزا، فكذلك من فطَّر صائمًا أو قوّاه على صومه، وكذلك من أعان حاجًّا أو معتمِرًا بما يتقوّى به على حجّه أو عمرته حتى يأتي ذلك على تمامه، فله مثل أجره. ومن أعان فإنما يجيء من حقوق الله بنفسه أو بماله حتى يغلبه على الباطل بمعونة فله مثل أجر القائم، ثم كذلك سائر أعمال البرِّ.

وإذا كان ذلك بحكم المعونة على أعمال البرِّ فمثله المعونة على معاصي الله وما يكرهه الله، للمعين عليها من الوزر والإثم مثل ما لعاملها، ولذلك نهى الرسول ﷺ عن بيع السيوف في الفتنة، ولعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وكذلك سائر أعمال الفجور.” [8]

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يتخلّق بهذا الخلق القويم في هذا الشهر العظيم، فنطعم الطعام على حبّه وحبّ رسوله الكريم .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الترمذي في أَبْوَابُ الصَّوْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا) 3/ 162، وقال: هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وابن ماجه في (بَابٌ فِي ثَوَابِ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا)، 1/ 555.

[2] عارضة الأحوذي 1/ 28.

[3] التبصرة لابن الجوزي 2/ 86.

[4] شرح سنن ابن ماجه للسيوطي وغيره 125.

[5] الطبراني المعجم الكبير 5/ 256.

[6] انظر التنوير شرح الجامع الصغير للأمير الصنعاني 10/ 330.

[7] فيض القدير 6/ 187.

[8] عن شرح صحيح البخاري لابن بطال 5/ 51، 52.