سلسلة الأربعون الرمضانيَّة | المقالة الثامنة عشرة | د. محمود مصري


 

                • الباب الرابع: أخلاق الصائم وسلوكه

 

          • 2- تجنُّب قول الزور والعمل به

          • عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» البخاري [1].

في هذا الحديث الشريف تحذير من خطرٍ عظيم يهدِّد قبول صيام المسلم، وهو بأن يتلبّس بأعظم آفات اللسان، ألا وهي قول الباطل المعبَّر عنه بقول الزور، ومن ثمَّ العمل به ليكتمل الإثم. عن عمر رضي الله عنه قال: (ليس الصيام من الطعام والشراب وحده، لكنّه من الكذب والباطل واللغو) [2].

الزور: الكذب والبهتان والميل عن الحقِّ، والعمل به، أي العمل بمقتضاه من الفواحش، ومما نهى الله عنه.

قوله: «فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، معناه: الكراهيةُ والتَّحذير، كما جاء: «من شرب الخَمرَ فليشَقِّص الخنازير» [3]، أي يذبحها، وليس هذا على الأمر بشَقْصِ الخنازير، ولكنّه على تعظيم إثم شرب الخمر. وكذلك مَنِ اغْتَابَ أو شَهِدَ زُورًا أو مُنْكَرًا لم يُؤمَر أنّ يدع صيامه، ولكنّه يُؤمَر باجتنابِ ذلك، ليتمّ له أجر صيامه [4].
وفي كتاب (الزهد والرقائق) لابن المبارك عن ابن جريج قال: “قال سليمان بن موسى عن جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب، ودع أذى الخادم، وليِكُ عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك وفطرك سواء” [5].

– والحاجة في قوله: «فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ» معناها: “فليس لله إرادة في صيامه، والله لا يحتاج إلى شيء، فوضع الحاجة موضع الإرادة” [6].

– قال الطيبي: “مجاز عن عدم الالتفات والقبول، والميل إليه، نفى السبب وأراد نفي المسبَّب. والمعنى إن الله لا يبالي بعمله ذلك؛ لأنه أمسك عما أُبيح له في غير حين الصوم، ولم يمسك عما حرّم عليه في سائر الأحايين [7].

– قال صاحب التنوير: “قال العراقي قوله: ليس لله حاجة في كذا، أي ليس مطلوبًا له، فكنّى به عن طلبه تعالى بذلك تجوّزًا؛ إذ الطلب في الشاهد إنما يكون غالبًا عن حاجة الطالب” [8].

      • والسؤال هنا هل يفطر الصائم بقوله الباطل والزور والقبيح من اللفظ؟

– قال ابن بطال: “اتفق جمهور الفقهاء على أن الصائم لا يفطره السبُّ والشتم والغيبة، وإن كان مأمورًا أن ينزِّه صيامه عن اللفظ القبيح. قال: ابن الملقّن: وهذا عندنا عَلَى وجه التغليظ والمجاز، ومعناه: سقوط الثواب”. وقال ابن القصار: معناه: أنه يصير في معنى المفطِّر في سقوط الأجر؛ لا أنه أفطر في الحقيقة لقوله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات: 12]، فلم يكن آكلًا في الحقيقة، وإنما يصير في معناه، ويجوز أن يكون في معنى التغليظ كما قَالَ: الكذب مجانب الإيمان. وقال أبو العالية: الصائم في ثوابٍ ما لم يغتب وإن كان نائمًا عَلَى فراشه.” [9]

وبناءً على أنه لا يعدُّ مفطرًا كما قرَّره العلماء فإنه لا يجب عليه القضاء.

– قال صاحب التنوير: “لا يُقال فيلزم قضاء الصوم على من كذب؛ لأنّا نقول: القضاء لا يجب إلا بأمر جديد، ولم يرد أمر بوجوب القضاء على من كذب وهو صائم” [10].

– قال صاحب فيض الباري مبيّنًا الاعتبار في ذلك، وأنه بناء عليه لا تناقض بين نظر المحدّث والفقيه: “وهو من باب الاختلاف في الوظائف، فلا صومَ له باعتبار وظيفة المحدِّث، ولا قَضَاءَ عليه باعتبار وظيفة الفقيه، لِمَا قامت عنده من الدلائل: أن النبيَّ ﷺ لم يأمره بالإِعادة. فلا تَنَاقُضَ بينهما، فاعلمه” [11].

– قال الطيبي رحمه الله مبيّنًا الإشارة في الحديث: “وفي الحديث دليل على أن الكذب والزور أصل الفواحش، ومعدن المناهي، بل قرين الشرك، قال تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحجّ: 30]، وقد عُلم أن الشرك مضادّ الإخلاص، وللصوم مزيد اختصاص بالإخلاص، فيرتفع بما يضادّه. والله أعلم [12].

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يعظّم شعائر الله، ويحفظ حرمة الصوم، وأن يكتبنا من المقبولين عنده في هذا الشهر الكريم.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] البخاري في الصوم (بَابُ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالعَمَلَ بِهِ فِي الصَّوْمِ) 3/ 26.

[2] مصنّف ابن أبي شيبة 2/ 272.

[3] أبو داود في البيوع (بَابٌ فِي ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ) 3/ 280.

[4] المسالِك في شرح مُوَطَّأ مالك لابن العربي 4/ 237.

[5] الزهد والرّقائق لابن المبارك 1/ 156، ومصنّف ابن أبي شيبة 3/ 3.

[6] التوضيح لشرح الجامع الصحيح 13/ 84.

[7] الكاشف عن حقائق السنن 5/ 1590.

[8] التنوير شرح الجامع الصغير 10/ 398.

[9] التوضيح لشرح الجامع الصحيح 13/ 83.

[10] التنوير شرح الجامع الصغير 10/ 399.

[11] فيض الباري على صحيح البخاري 2/ 328.

[12] الكاشف عن حقائق السنن 5/ 1591.