سلسلة الأربعون الرمضانيَّة | المقالة السابعة عشرة | د. محمود مصري



              • الباب الرابع: أخلاق الصائم وسلوكه

 

        • 1- الجود في رمضان

        • عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» متفق عليه [1].

هذا الحديث الشريف يبيّن لنا أخلاق رسول الله ﷺ، وسلوكه في شهر رمضان على وجه الخصوص -وإن كان في غيره كذلك- ليتأسّى به أهل الإيمان في رمضان وخارج رمضان، ولهذا أخرجه البخاري في “باب صفة النبي ﷺ”، وجاء عند مسلم في فضائل النبي ﷺ.

– قال الطيبي رحمه الله: ” كان رسول الله ﷺ يسمح بالموجود، لكونه مطبوعًا على الجود، مستغنيًا عن الفانيات بالباقيات الصالحات، إذا بدا له عرض من أعراض الدنيا لم يعره مؤخَّر عينيه -وإن عزَّ وكثُر- ببذل المعروف قبل أن يُسأَل. وكان إذا أحسن عاد، وإن وجد جاد، وإن لم يجد وعد ولم يخلف الميعاد” [2].

والجود: هو كثرة الإعطاء. وقوله: «أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»، يعني أن عطاءه أشدُّ سرعةً من الريح المرسلة، وأكثر تعميمًا منها. ويُحتمَل أنه أراد بها التي أرسِلت بالبشرى بين يدي رحمة الله تعالى، وذلك لشمول روحها وعموم نفعها. قال الله تعالى: ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ [المرسلات: 1]، وأحد الوجوه في الآية: أنه أراد بها الرياح المرسلات للإحسان والمعروف. فلهذه المعاني المذكورة في المرسلة، شبَّه نشر جوده بالخير في العباد بنشر الريح القطر في البلاد، وشتّان ما بين الأثرين؛ فإن أحدهما يحيي القلب بعد موته، والآخر يحيي الأرض بعد موتها. وإنما لم يقتصر في تأويل الخير علي ما يبذله من مال، ويوصله من احتاج؛ لما عرفنا من تنوع أغراض المعترين إليه، واختلاف حاجات السائلين عنه، وكان ﷺ يجود على كلِّ واحدٍ منهم بما يسدُّ خلَّته، وينقع غلَّته، ويشفي علَّته، وذلك المراد من قوله: «أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ».. والتقدير: كان أجود أوقاته وقت كونه في رمضان، فإسناد الجود إلى أوقاته ﷺ كإسناد الصوم إلى النهار، والقيام إلى الليل في قولك: نهاره صائم وليله قائم. وفيه من المبالغة ما لا يخفى [3].

– قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “فَالرِّيحُ الْمُرْسَلَةُ تَسْتَمِرُّ مُدَّةَ إِرْسَالِهَا، وَكَذَا كَانَ عَمَلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ دِيمَةً لَا يَنْقَطِعُ” [4].

– قال القاضي عياض رحمه الله معلِّلًا قوله: «فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيْلُ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»: “هذا بحكم تجديد الإيمان واليقين في قلبه، بملاقاة الملَك، وزيادة ترقِّيه في المقامات، وعلوّ الدرجات، بمناقشته ومدارسته للقرآن معه. وفي قوله: (أجود بالخير من الريح المرسلة) جواز المبالغة.. وفي فعله ﷺ هذا امتثال لقوله تعالى في تقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول التي كان أمر الله بها عباده فامتثله ﷺ بين يدي مناجاة الملك، وإن الله تعالى قد خفَّف الحكم ونسخه عن أمته [5].

– قال الطيبي رحمه الله: “وقوله: (كان جبريل) إلى آخره استئناف وتخصيص بعد تخصيص على سبيل الترقّي. فضَّل أولًا جوده مطلقًا على جود الناس كلِّهم، ثم فضَّل ثانيًا جود كونه في رمضان على جوده في سائر أوقاته، ثم فضَّل ثالثًا جوده في ليالي رمضان عند لقاء جبريل على جوده في رمضان مطلقًا، ثم شَّبهه بالريح، ووصفها بالمرسلة، ولا ارتياب أن مرسلها هو الله تعالى، وهو من صفات جوده على الخلق طرًا” [6].

 

      • والسؤال الذي يتبادر للذهن لماذا خُصَّ رمضان بالذات لإظهار صفة “الجود” عنده ﷺ بأعلى صورها؟ 

– قال في التوضيح: وخُصَّ بذلك رمضان لوجوه:

  • أحدها: أنه شهر فاضل وثواب الصدقة فيه مضاعف..
  • ثانيها: أنه شهر الصوم، فإعطاء الناس والإحسان إليهم إعانة لهم عَلَى الفطر والسحور.
  • ثالثها: أن الإنعام يكثُر فيه، فقد جاء في الحديث أنه يزاد فيه في رزق المؤمن، وأنه يعتق فيه كلِّ يوم ألف ألف عتيق من النار، فأحبَّ الشارع أن يوافق ربَّه في الكرم.
  • رابعها: أن كثرة الجود كالشكر لترداد جبريل إليه في كلِّ ليلة.
  • خامسها: أنه لما كان يدارسه القرآن زادت معاينته الآخرة فأخرج ما في يده من الدنيا” [7].


– ويؤخَذ من الحديث استحباب مدارسة القرآن وكذا غيره من العلوم الشرعية، وحكمة المدارسة أن الله تعالى ضمن لنبيه أن لا ينساه فأنجزه بها، وخُصَّ بذلك رمضان؛ لأن الله تعالى أنزل القرآن فيه إلى سماء الدنيا جملةً من اللوح المحفوظ، ثمَّ نزل بعد ذَلِكَ نجومًا عَلَى حسب الأسباب في عشرين سنة.

– كما يؤخَذ منه استحباب مجالسة الصالحين والعلماء ومذاكرتهم، فإنه ينتفَع بهم، وتكرير زيارتهم وتواصلها إذا كان المزور لا يكره ذلك ولا يتعطّل به عن مهمٍّ هو عنده أفضل من مجالسة زائره، فإن كان بخلاف ذلك استُحِبَّ تقليلها، ألا ترى قول لقمان لابنه: يا بنيَّ جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله تعالى يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء.

– ويؤخَذ منه استحباب إكثار قراءة القرآن في رمضان، فإنه ﷺ فعل ذَلِكَ للتأسّي.

– ويؤخَذ منه الحثُّ على الجود والإفضال في كلِّ الأوقات، والزيادة منه في شهر رمضان، ومواطن الخير، وعند الاجتماع بالصالحين، وعقب فراقهم؛ ليتأثَّر بلقائهم.

– ويؤخَذ منه أنه لا بأس بقول: رمضان من غير ذكر (شهر)، وهذا هو المذهب الصحيح المختار؛ لأن الأحاديث الصحيحة كثُرت بإطلاق رمضان.

– ويؤخَذ منه أن قراءة القرآن أفضل من التسبيح وسائر الأذكار [8].

 


نسأل الله تعالى أن يخلِّقنا بأخلاق رسول الله ﷺ وأن نكون من المتأسِّين بسلوكه ﷺ في هذا الشهر الكريم المبارك.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] البخاري في باب بدء الوحي (كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) 1/ 8، ومسلم في الفضائل (بَابٌ فِي شَجَاعَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَقَدُّمِهِ لِلْحَرْبِ) 4/ 1802.

[2] الكاشف عن حقائق السنن 5/ 1628.

[3] المصدر السابق 5/ 1628، 1629.

[4] فتح الباري 9/ 45.

[5] إكمال المعلم 7/ 273.

[6] الكاشف عن حقائق السنن 5/ 1629.

[7] التوضيح لابن الملقّن 2/ 359، 360، 361.

[8] انظر المصدر السابق 2/ 361، 362، بتصرّف.