سلسلة الأربعون الرمضانيَّة | المقالة الخامسة عشرة | د. محمود مصري



            • الباب الثالث: اغتنام رمضان

 

        • 4- عمرة تعدل حجّة

        • عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : «فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ حَجَّةٌ» متفق عليه [1].

هذا الحديث يدلُّنا دلالة واضحة على اغتنام العمرة في رمضان، فهو يحثُّ عليها من خلال بيان فضلها العظيم، وأنها تعدل في الأجر حجَّة مع رسول الله .

 

– ونقل الترمذي عن إِسْحَاقُ: “مَعْنَى هَذَا الحَدِيثِ مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَدْ قَرَأَ ثُلُثَ القُرْآنِ»[2].

– وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: “حَدِيث الْعمرَة هَذَا صَحِيح، وَهُوَ فضل من الله ونعمة، فقد أدْركت الْعمرَة منزلَة الْحَج بانضمام رَمَضَان إِلَيْهَا” [3].

 

        • وقصة الحديث كما أخبر ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أن رَسُولُ اللهِ ﷺ قال لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وهي أمّ سنان الأنصارية: مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّين مَعَنَا؟ قَالَتْ: كَانَ لَنَا نَاضِحٌ فَرَكِبَهُ أَبُو فُلاَنٍ وَابْنُهُ -لِزَوْجِهَا وَابْنِهَا- وَتَرَكَ نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِي فِيهِ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ حَجَّةٌ».

والناضح: البعير، أو الثور، أو الحمار الذي يربط به الرشا يجرّه، من أجل السُّقيا.

“وفي روايات الحديث ما يدلُّ على أن المرأة المذكورة جعلت على نفسها حجَّة مع النبي ﷺ لتحوز بذلك شرف المعية وكثرة الثواب فأجابها ﷺ بأن ذلك يحصل لها بالاعتمار في رمضان” [4].

 

“وفي رواية لمسلم: «فإن عمرة فيه تعدل حجَّة»، وفي رواية أخرى: «فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً مَعِي». ومعنى «تقضي»: تجزئ، أي في الأجر والثواب، لا في الإجزاء عن الفريضة، ولا خلاف في ذلك بين العلماء. لذلك قال العلماء: إن الحجَّة التي فاتت هذه المرأة كانت تطوّعًا لإجماع الأمة على أن العمرة لا تجزئ عن حجة الفريضة، إذ لا مانع من أن تكون حجَّت مع أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة فسقط عنها الفرض، ثم أرادت أن تحجَّ مع النبي ﷺ في حجة الوادع في السنة العاشرة فمنعها عدم تيسر الراحلة” [5].

 

  • وعلّة عدم إجزاء العمرة في رمضان عن حجّ الفرض من وجهين:
  1.  أن الفريضة لا تقارن بالنفل.
  2.  أن العمرة لا يمكن أن تجزئ عن فرض الحجّ، فهي عبادة مختلفة مستقلّة.
    قال ابن الملقن: “والمراد حجَّة التطوع” [6].

– قال الطيبي: “هذا من باب المبالغة وإلحاق الناقص بالكامل ترغيبًا وبعثًا عليه، وإلا كيف يعدل ثواب العمرة ثواب الحج.”
قال ابن خزيمة رحمه الله: “إن الشيء يشبَّه بالشيء، ويجعَل عدله إذا أشبهه في بعض المعاني؛ لا جميعها؛ لأن العمرة لا يُقضى بها فرض الحج ولا النذر.” [7].

– قال ابن حجر: “فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَعْلَمَهَا أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ الْحَجَّةَ فِي الثَّوَابِ؛ لَا أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَهَا فِي إسْقَاطِ الْفَرْضِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِمَارَ لَا يُجْزِئُ عَنْ حَجِّ الْفَرْضِ.” [8].

– وَقَالَ ابْن التِّين: “قَوْله: «كحجة»، يحْتَمل أَن يكون على بَابه، وَيحْتَمل أَن يكون لبركة رَمَضَان، وَيحْتَمل أَن يكون مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْمَرْأَة.” [9].

وقد استدلّ العلماء بالحديث على جواز الاعتمار في غير أشهر الحجّ.

  • وهنا يتبادر سؤال إلى الأذهان: هل العمرة في رمضان أفضل لهذا الحديث أو في أشهر الحجّ أفضل لفعل النبي ﷺ؛ لأنه لم يعتمر إلا فيها؟ 

وقد أجاب العلماء عن هذا فقالوا: “إنَّ الْعُمْرَةَ فِي رَمَضَانَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ أَفْضَلُ، وَأَمَّا فِي حَقِّهِ فَمَا صَنَعَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ لِلرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا يَمْنَعُونَ مِنْ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.” [10].

 

– قال القسطلاني: “قد أخبر في بعض العبادات أنه تركها لئلا يشقّ على أمّته مع محبته لذلك، كالقيام في رمضان بهم، ومحبته لأنه يستقي بنفسه سقاة زمزم كيلا يغلبهم الناس على سقايتهم، والطي؛ يظهر أن العمرة في رمضان لغيره عليه الصلاة والسلام أفضل” [11].


وأما عن حكمة مضاعفة ثواب الأعمال في بعض الأوقات أو بعض الحالات فقد قال ابن الملقِّن: “وثواب الأعمال يزيد بزيادة شرف الوقت، أو خلوص القصد وحضور القلب”. قال الزهري: “تسبيحةٌ في رمضان خيرٌ من سبعين في غيره، فببركة رمضان حصل هذا الفضل” [12]. قال ابن بطّال: “والفضائلُ لا تدرَك بقياس، والله يؤتى فضله من يشاء” [13].

 

نسأل الله تعالى أن يجعل لنا حظًّا وافرًا من إدراك الأوقات التي تحصل فيها مضاعفة الثواب، وأن يخصَّنا بفضله الذي يؤتيه من يشاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

[1] البخاري في الصوم (بَابُ عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ) 3/ 3، ومسلم في الصيام (بَابُ فَضْلِ الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ) 2/ 917.

[2] الترمذي في أَبْوَابُ الحَجِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (بَابُ مَا جَاءَ فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ) 3/ 367.

[3] عمدة القاري شرح صحيح البخاري 10/ 117.

[4] مرعاة المفاتيح 8/ 306.

[5] مرعاة المفاتيح 8/ 307.

[6] التوضيح لشرح الجامع الصحيح 12/ 231.

[7] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني 3/ 366.

[8] انظر فتح الباري 3/ 604.

[9] عمدة القاري شرح صحيح البخاري 10/ 117.

[10] نيل الأوطار للشوكاني 4/ 358.

[11] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني 3/ 366.

[12] التوضيح لشرح الجامع الصحيح 12/ 231.

[13] شرح صحيح البخاري لابن بطال 4/ 438.