سلسلة الأربعون الرمضانية – المقالة الحادية عشر | الشيخ د. محمود مصري

بسم الله الرحمن الرحيم

الباب الثاني: خصوصيات الصيام

رمضان شهر مبارك

عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ: (أَتَاكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ). النسائي.

في هذا الحديث الشريف بيانٌ لمجموعة من فضائل شهر رمضان، تُظهِر لنا خصوصية هذا الشهر العظيم، وهذه الخصائص الأربعة المذكورات في الحديث هي: تفتُّح أبواب والسماء، وانغلاق أبواب الجحيم، وحجب وساوس مردة الشياطين عن المؤمنين، الذي عبَّر عنه بقوله: (وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ)، وأن فيه ليلةَ القدر المباركة المعظَّم شأنها. وهذه الخصوصيات لهذا الشهر العظيم هي التي جعلت منه شهرًا مباركًا، كما بيَّن ذلك مطلَع الحديث: (أَتَاكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ).

وهذه البركة لهذا الشهر، التي وردت في الحديث من خلال ما ذُكر من خصائص الصيام؛ كلُّها جاءت بسبب فرضية الصوم التي جُعِلَت فيه، فكان اتباع قوله: (أَتَاكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ) بقوله: (فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ) لحكمة بيان علَّة تلك البركة. ومن هنا يكون وصف رمضان بالمبارَك من قبيل الإخبار بأنه تكاثر خيره الحسيُّ والمعنويُّ.

لكن الحديث يحتمل معنىً آخر هو أن يكون ذلك على سبيل الدعاء، أي جعله الله مباركًا علينا وعليكم، ومن هنا كانت سنَّة أهل الإيمان في التهنئة فيه، وفي جميع الأشهر المباركة التي ثبتت خصوصيتها. قال القاري رحمه الله عن هذا الحديث: “وَهُوَ أَصْلٌ فِي التَّهْنِئَةِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي أَوَّلِ الشُّهُورِ بِالْمُبَارَكَةِ.”

وتظهر البركة في شهر رمضان بأن الله تعالى ينزِّل فيه الرحمة على عباده، ويحطُّ عنهم خطاياهم، ويستجيب فيه دعاءهم، ويباهي بتنافسهم بالطاعة ملائكته، فعلى أهل الإيمان أن يروا الله تعالى فيه من أنفسهم خيرًا. قال رسول الله ﷺ: (أتاكمُ رمضانُ، شهر بركةٍ يغشاكُمُ اللهُ فيهِ، فيُنزِّلُ الرَّحمةَ، وَيحُطُّ الخطايَا، ويَستجيبُ فيه الدعاءَ، ينظرُ اللهُ إلى تَنَافُسِكمُ فيهِ، ويُباهِيْ بكمُ ملائِكتَهُ، فأرُوا اللهَ مِنْ أنفُسِكم خيرًا، فإِنَّ الشقيَّ من حُرِمَ فيه رحمةَ اللهِ).

وأمّا تفتُّح أبواب السماء فهو كناية عن القبول، وفي رواية أحمد (أبواب الجنَّة)، والنتيجة واحدة، للتلازم بين القبول ودخول الجنَّة.

وفي رواية الترمذي: (وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ). وباغي الخير: طالبه. وطلب الخير والمبادرة إليه تكون أولًا بالتوبة النصوح، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ ]التحريم:8[، ثم الإقبال على الله بالطاعات والقربات.

وروي: أن النبي ﷺ كان يدعو ببلوغ رمضان فكان إذا دخل رجب يقول: (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان). قال معلّى بن الفضل: كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبَّل منهم. وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: اللهم سلِّمني إلى رمضان، وسلِّم لي رمضان وتسلمه مني متقبَّلًا. فبلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه.

وتقييد الشياطين بالأغلال في هذا الشهر المبارك ورد في عدد من الأحاديث. وأغلَّ فلانًا أدخل في عنقه أو يده الغُلّ. ومَرَدة الشياطين: عُتَاتُهم. والحكمة في ذلك على ما قال العلماء هي منعهم من الوسوسة للصائمين، ويدلُّ على ذلك تنزُّه أكثر الصائمين عن المعاصي، ورجوع المسرفين على أنفسهم إلى الله عزَّ وجلَّ في هذا الشهر، كما هو معلوم ومشاهد. وعلَّلوا ما يوجد بخلاف ذلك بوجود هواجس النفس الأمارة بالسوء التي لا تزال تحتفظ في أعماقها بتسويلات الشياطين. وقيل بأنه ربَّما كان التقييد كناية عن ضعفهم بالإغواء والإضلال.

ومن خصائص هذا الشهر العظيم أن ليلة القدر تكون فيه على الأغلب، وخصوصًا تُطلَب في ليالي العشر الأخير، كما ثبت في الأحاديث، غير أنها مبهمةٌ، ويمكن أن تكون في أيِّ ليلة من ليالي السنة. وخصوصيَّة هذه الليلة بأن العمل فيها يكون خيرًا من العمل في ألف شهر غيرها، ليس فيها ليلة قدر.

ولعظيم فضل ليلة القدر المباركة فإن الذي يحرَم خيرها لا يمكن أن يقدَّر خسرانه، ويفيد ذلك قولُه ﷺ: (من حرِم خيرها فقد حرِم)، فقد اتحد الشرط والجزاء دلالة على فخامة الجزاء، أي حرِم خيرًا كثيرًا، لا يقادَر قدرُه.

قال في المرقاة: “أي مَنْ مُنِعَ خَيْرَهَا بِأَنْ لَمْ يُوَفَّقْ لِإِحْيَائِهَا وَلَوْ بِالطَّاعَةِ فِي طَرَفَيْهَا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ بِجَمَاعَةٍ فَقَدْ أَدْرَكَ حَظَّهُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يَنَالُ فَضْلَهَا إِلَّا مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا فَالْمُرَادُ مِنْهُ فَضْلُهَا الْكَامِلُ.”

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من طلَّاب الخير في هذا الشهر العظيم، وأن يشملنا بعطاياه التي اختصَّ بها عباده في ليلة القدر المباركة، وألا نكون فيها من المحرومين.

المصادر والمراجع

  • الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير، للحسين بن إبراهيم بن الحسين الجورقاني، ت عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، دار الصميعي، الرياض، ومؤسسة دار الدعوة التعليمية الخيرية، الهند، ط4، 1422هـ/ 2002م.
  • سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى بن سَوْرة، ت لأحمد محمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي وإبراهيم عطوة عوض، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2، 1395هـ/ 1975م.
  • الكاشف عن حقائق السنن لشرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي، ت عبد الحميد هنداوي، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة – الرياض، ط1، 1417هـ/ 1997م.
  • لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، لزين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، دار ابن حزم، ط1، 1424هـ/ 2004م.
  • المجتبى من السنن (السنن الصغرى للنسائي) لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، ت عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط2، 1406هـ/ 1986م.
  • مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، لعلي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري، دار الفكر، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2002م.
  • مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الفكر، بيروت، 1412هـ.
  • مسند الإمام أحمد بن حنبل، لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ت شعيب الأرناؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421هـ/ 2001م.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] النسائي في الصيام (باب فضل شهر رمضان) 4/ 129. وحسنه الجوزقاني في “الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير” 2/ 111.
[2] مرقاة المفاتيح 4/ 1365.
[3] قال في مجمع الزوائد 3/ 344: رواه الطبراني في الكبير وفيه محمد بن أبي قيس ولم أجد من ترجمه.
14/ 314.
[4] الترمذي في أَبْوَابُ الصَّوْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (باب ما جاء في فضل شهر رمضان) 3/ 57.
[5] قال في مجمع الزوائد 3/ 140: رواه البزار والطبراني في الأوسط، وفيه زائدة بن أبي الرقاد، وفيه كلام، وقد وثِّق.
[6] لطائف المعارف لابن رجب 148.
[7] انظر المصدر السابق 4/ 1364.
[8] انظر الكاشف عن حقائق السنن 5/ 1576.
[9] مرقاة المفاتيح 4/ 1366.