سلسلة الأربعون الرمضانية – المقالة الأربعون| الشيخ د. محمود مصري

بسم الله الرحمن الرحيم

الباب الثامن: الصوم في غير رمضان

 الصائم المتطوِّع يفطر

عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:

“آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ؟ قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ: سَلْمَانُ قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:(صَدَقَ سَلْمَانُ). البخاري.

ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن الطبراني زاد في آخر الرواية: فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺَ: عُوَيْمِرُ سَلْمَانُ أَفْقَهُ مِنْكَ. وَعُوَيْمِرُ اسْمُ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺَ: لَقَدْ أُوتِيَ سلمَان من الْعلم. وَفِي رِوَايَة ابن سَعْدٍ: لَقَدْ أُشْبِعَ سَلْمَانُ عِلْمًا. وكلُّ هذه العبائر تدلُّ على شهادة رسول الله ﷺ لسيِّدنا سلمان بالحكمة ومعرفة مقاصد الدين.

ترجم البخاري رحمه الله للباب الذي أورد فيه الحديث: بَابُ مَنْ أَقْسَمَ عَلَى أَخِيهِ لِيُفْطِرَ فِي التَّطَوُّعِ، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَضَاءً إِذَا كَانَ أَوْفَقَ لَهُ. وترجمة الباب توضح لنا فقه البخاري، في قضيتين: مشروعية الفطر في هذه الحال، وهل يحتاج من يفطر للإعادة؟

وقد استنبط الحافظ ابن حجر فوائد عظيمة من الحديث نلخِّص مهمَّات منها:

– مَشْرُوعِيَّةُ الْمُؤَاخَاةِ فِي اللَّهِ، وَزِيَارَةُ الْإِخْوَانِ، وَالْمَبِيتُ عِنْدَهُمْ.

– جَوَازُ مُخَاطَبَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالسُّؤَالُ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّائِلِ.

– النُّصْحُ لِلْمُسْلِمِ، وَتَنْبِيهُ مَنْ أَغْفَلَ.

– فَضْلُ قِيَامِ آخِرِ اللَّيْلِ.

– مَشْرُوعِيَّةُ تَزَيُّنِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا.

– ثُبُوتُ حَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ ثُبُوتُ حَقِّهَا فِي الْوَطْء،ِ لِقَوْلِهِ: وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ثُمَّ قَالَ: وَائْتِ أَهْلَكَ، وَقَرَّرَهُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى ذَلِكَ.

– جَوَازُ النَّهْيِ عَنِ الْمُسْتَحَبَّاتِ إِذَا خَشِيَ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى السَّآمَةِ وَالْمَلَلِ وَتَفْوِيتِ الْحُقُوقِ الْمَطْلُوبَةِ الْوَاجِبَةِ أَوِ الْمَنْدُوبَةِ الرَّاجِحِ فِعْلُهَا عَلَى فِعْلِ الْمُسْتَحَبِّ الْمَذْكُورِ.

– كَرَاهِيَةُ الْحَمْلِ عَلَى النَّفْسِ فِي الْعِبَادَةِ.

ثم إن الحافظ رحمه الله وقف طويلا عند مسألة: جَوَازُ الْفِطْرِ مِنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ. فبيَّن أن جواز الفطر إذا كان يصوم تطوُّعًا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا عَلَيْهِ قَضَاء؛ً إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ. وَمِنْ حُجَّتِهِمْ حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَدَعَا بِشَرَابٍ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهَا فَشَرِبَتْ، ثُمَّ سَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَكُنْتِ تَقْضِينَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، قَالَتْ: لَا، قَالَ: فَلَا بَأْسَ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِنْ كَانَ مِنْ قَضَاءٍ فَصَوْمِي مَكَانَهُ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتِ فَاقْضِهِ وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَقْضِهِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيُّ.

وَعَنْ مَالِكٍ الْجَوَازُ وَعَدَمُ الْقَضَاءِ بِعُذْر،ٍ وَالْمَنْعُ وَإِثْبَاتُ الْقَضَاءِ بِغَيْرِ عُذْرٍ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ مُطلقًا، وَشبهه بِمن أفسد حج التَّطَوُّع، فَإِن عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ اتِّفَاقًا. قال البدر العيني: الأَصْل وجوب الْقَضَاء؛ لِأَن الَّذِي يشرع فِي عبَادَة يجب عَلَيْهِ أَن يَأْتِي بهَا وإلاَّ يكون مُبْطلًا لعمله، وَقد قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم﴾ ]مُحَمَّد: 33[.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَجَّ امْتَازَ بِأَحْكَامٍ لَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ فِيهَا. وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ بِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ بَرْقَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ، فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَبَدَرَتْنِي إِلَيْهِ حَفْصَة،ُ وَكَانَتْ بِبَيْتِ أَبِيهَا، فَقَالَت:ْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ. فَقَالَ: اقْضِيَا يَوْمًا آخر مَكَانَهُ. ورجَّح التِّرْمِذِيّ إرساله. وجمع الحافظ بين الآثار بأن الأمر للندب.

وَلا يخفى ما في الحديث من وُجُوبِ الِانْقِيَادِ فِي الْخَيْرِ، وَاسْتِحْبَابِ انْقِيَادِ الْأَصَاغِرِ لِلْأَكَابِر؛ِ وَإِنْ فَهِمَ الْحَقَّ فِي جَانِبِ نَفْسِهِ، وَفِيهَ الْحَثُّ عَلَى مُؤَاخَاةِ الْإِخْوَانِ الصَّالِحِينَ. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الوقَّافين على الحقِّ، الذين يلينون في أيدي إخوانهم، ويقبلون النصح من الصالحين، إنه سميع مجيب.

المصادر والمراجع

  • بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية، لمحمد بن محمد بن مصطفى الخادمي، مطبعة الحلبي، 1348هـ.
  • الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه (صحيح البخاري)، لمحمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، ت محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية)، ط1، 1422هـ.
  • عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لأبي محمد محمود بن أحمد بن موسى، بدر الدين العيني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
  • فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.

_____________________________________________

[1]  البخاري في الصوم (بَابُ مَنْ أَقْسَمَ عَلَى أَخِيهِ لِيُفْطِرَ فِي التَّطَوُّعِ، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَضَاءً إِذَا كَانَ أَوْفَقَ لَهُ) 3/ 38.

[2]  عمدة القاري 11/ 77.

[3]  فتح الباري 4/ 211.

[4]  بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية للخادمي 1/ 128.