سلسلة إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة الرابعة والعشرون | الشيخ أنس الموسى

من أسرار الفدية والكفارة في الصوم


          الحمد لله رب العالمين كلف عباده بما يطيقون ووضع عنهم ما يعجزون فهو القائل ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [الحج 78]
وهو القائل ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[البقرة 185]
وقد أثر عن المصطفى قوله: 
«أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» [1] وقوله ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» [2].

 

          أيها الإخوة: الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع؛ لهذا فقد تميزت بخصائص تجعلها قابلةً للتطبيق والثبات والاستمرار؛ فلم تطلب شريعتنا من المخطئ قتل نفسه توبةً من ذنبه كما كان الحال في الشرائع السابقة ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 54] كما لم تطلب شريعتنا ممن لابس ثوبَه نجاسةٌ أن يقطع موضع هذه النجاسة تطهيرًا له فالحرج في شريعتنا مدفوع مرفوع؛ فلا مشقة يعجز المكلف عن أدائها أو لا يطيقها؛ فلم يأمرنا ربنا سبحانه بقيام الليل كله أو صيام أيام متتابعة لا يتخللها فطر لأنه تكليف ما لا يطاق ولا يدخل في الوسع؛ وهذا لا يعني أن التكليف يخلو عن جنس المشقة بل إن المشقة في التكليف لابد منها لكنها لا تصل بالمكلف إلى حدِّ العجز عن الأداء أو الإتمام أو حصول العنت والإرهاق الشديدين بل كلما وجد نوع مشقة في التكليف ستجد يسرًا وسهولةً تغلِّفه فالمشقة تجلب التيسير.

          أيها الإخوة: إن نوع المشقة التي تكتنف التكاليف تشبه المشاق الكائنة في سائر الأعمال الدنيوية ومختلف الفنون والشؤون؛ فلا يخلو تحصيل الرزق مثلاً عن المشقة أثناء الضرب في الأرض لتحصيله ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة: 6] 

         أيها الأحبة: إن التكاليف المفروضة من الله على عباده هي فضل منه ورحمة فالله يريد بهذه التكاليف أن ينشئ المسلم السويَ الصالحَ لتعمير الأرض بعبادة الله وطاعته ولا يريد به العنت والتعب، وإن من جملة هذه العبادات التي افترضها الله على عباده عبادةُ الصوم وهي من أعظم الفرائض التي تربي في المسلم قوة الإرادة والتحكم في نزوات النفس وشهواتها.

          ومع هذه الغايات النبيلة التي تريد الشريعة أن يكون عليها المسلم فإن الشريعة لم تُغْفِل ضَعفَ فالإنسان؛ فهو مركب من مجموعة أخلاط؛ ففيه الضعف البشري بكافة صنوفه وألوانه من المرض والهرم والنسيان ووجود الغرائز والشهوات، كما أن للنفس دور كبير في تزيين الخطأ وإلباسه لبوس الواقع والتطبيق؛ فيقع المكلَّف بسبب ذلك في الخطأ ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [يوسف: 53] كما لا يخفى دور الشيطان ووسوسته ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 268] كل هذه العوارض تعترض ذلك المخلوق الضعيف الإنسان.

          إذن أيها الإخوة الشريعة تنظر للإنسان على أنه مخلوق ضعيف ووقوع العجز منه والخطأ منه أمر وارد فالله لم يخلق البشر أناسيَ معصومةً عن الخطأ والزلل كالملائكة والمرسلين؛ لهذا جاءت الشريعة الإسلامية متساوقةً مع ما رُكِّبَ في الإنسان من الغرائز والشهوات والضعف لهذا قلنا إنها شريعة اليسر والسهولة والسماحة ورفع الحرج عن المكلفين مع ما ينضاف إليها من غايات تأخذ الفرد ليكون عبدًا سويًا صالحًا.

          الصوم أيها الإخوة لا يخلو عن المشقة وهذه المشقة تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة فالصائم قد يكون صحيحًا أو عليلًا، وقد يكون شابًا وقد يكون كهلًا وقد يكون الجو صيفًا وقد يكون شتاءً وقد يكون الصائم مسافرًا وقد يكون مقيمًا وقد يكون امرأة حاملًا أو مرضعًا أو حائضًا أو نفساء، أو يكون الصيام في الحرب أو يكون في السلم إلى غير ذلك من الصور.

          أيها الإخوة إن الشريعة الإسلامية لم تُغْفِل عناصر الضعف البشري السابقة بل أعطت لكل صنف حكمه اللائق به مما يتفق مع يسر الشريعة وسماحتها، وعلى وجه يبقى معه التكليف قائمًا.

          أيها الإخوة: إن فريضة الصوم لا تخلو عن حالاتٍ يعجز فيها الصائم عن الصيام كما سبق وذكرنا من الأصناف، ومن رحمة الله بهؤلاء الضعفاء وسماحة الشريعة ورفع الحرج عن المكلف رخص الله عز وجل الفطر في نهار رمضان للمسافر فإن السفر مَظِنَّةُ المشقة والمَظِنَّةُ تُنَزَّلُ منزلةَ المَئِنَّة؛ لهذا أباح للمسافر أن يفطر ما دام السفر قائمًا دون إثم أو حرج، وكذلك الحال في المريض مرضًا غير مزمن وهو المرض الذي يرجى برؤه وشفاؤه، ولما كان حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن أمر المريض مرضًا غير مزمن والمسافر أن يقضيا ما أفطراه في نهار رمضان في أيام أخر إذا زال المرض أو انقضى السفر وحصلت الراحة ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 184] ولا يشترط في قضاء هذا الصيام أن يكون متتابعًا كما فات.

          ومن جملة الرخص التي رخص الله بها لذوي الأعذار أنه رخص للحائض والنفساء أن تتوقف عن الصيام خلال هاتين الفترتين بل اعتبرت الشريعة صيام الحائض باطلًا بل ومنهيًا عنه حتى وإن قصد به التعبد أو كانت المرأة قادرة على الصيام؛ فأمرت الشريعة الحائض والنفساء أن تتركا الصلاة والصيام في تلك الأيام، إلا أنها أمرتهما بقضاء الصيام دون الصلاة وليس عليهما أي شيء آخر غير القضاء كدفع فديةٍ أو كفارة؛ فالتصدق وإطعام المساكين لا يكون بدلاً عمن يستطيع قضاء الصيام بعد رمضان.

          أيها الأحبة: إن منع الحائض والنفساء من الصيام من فضل الله تعالى ورحمته ويُسْرِ الشريعة وسهولتها؛ فضعف البنية والمشقة التي تعتري الحائض والنفساء في تلك الفترة وينضاف إليها المرضع والحامل في بعض الحالات كفيلان أن يترخصا للمرأة بالفطر فالشريعة جاءت بتكاليف خالية عن الحرج والمشقة ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6].        

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: «كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» [3].

          وهنا أمر لابد من الإشارة إليه وهو أن عدم أمر الشريعة للحائض والنفساء بالصيام في تلك الفترة ليس له علاقة بالطهارة فالطهارة لا تشترط للصائم؛ فمن أصبح جنبًا في نهار رمضان مثلًا لا تؤثر الجنابة في صومه.

          وقد سألت معاذةُ السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت: «مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قَالَتْ: قُلْتُ لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ، قَالَتْ: قَدْ كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ، فَيَأْمُرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا يَأْمُرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ» [4]
إذن لا علاقة لفطر الحائض والنفساء في نهار رمضان لا بطهارة ولا باستطاعة بل هو أمر تعبدي تعبد الله به النساء وهو من فضل الله ورحمته الله أعلم بمراده على وجه التحديد.

          ومن هذا اليسر والسهولة التي تميزت به شريعتنا وتغلفت به فريضة الصوم أن العبد الصائم قد ينسى فيأكل ويشرب وهو صائم بمقتضى غريزته وفطرته ومع ذلك لم يؤاخذه الله بهذا النسيان بل قال له: «إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» [5]
لقد عذرت الشريعة الناسي والمكلف بالصوم دون غيره لأن الصوم ليس له هيئةٌ مذكِّرة بخلاف الصلاة والإحرام في الحج فإن له هيئاتٍ من استقبال القبلة والتجرد عن المخيط فكان أحق أن يُعذر فيه.

          أيها الإخوة: تحدثنا قبل قليل عن المرض وذكرنا أن المرض من العوارض التي تعتري الصائم وقد يكون عارضًا يزول أو مزمنًا لا يرجى برؤه وشفاؤه وفي هذه الحالة فإن الشريعة نظرت إلى عجز هذا الزَّمِن عن الصيام في أيام رمضان وبعد انقضائه؛ لهذا أباحت الشريعة له الفطر دون تأثم، ولكونه عاجز عن القضاء كون مرضه لا يرجى برؤه فإن الشريعة أوجدت له بديلًا وهو الفدية.

          أيها الإخوة الفدية: عبارةٌ عن عوضٍ يقدمه المكلف للتخلص من المكروه، ونعني بالكراهة كراهة ما نزل بالمريض فأقعده عن القدرة على الصيام أو القضاء، فالفدية في الصوم عوضٌ يقدمه من عجز عن الصيام كفارةً لما أفطره وبهذا تَبرأ ذمة المسلم العاجز عن إثم عدم صيامه شهرَ رمضان.

          والفدية أيها الأحبة يدفعها كل عاجز عجزًا مستمرًا عن الأداء والقضاء وغالب ما يكون ذلك في كبار السن أو الزَّمنى الذين لا يرجى برؤهم فمن رحمة الله بهم أن جعل الفدية عوضَ صيامهم وجبرًا لخواطرهم ودفعًا للحرج عنهم.

          أيها الأحبة: إن الله تعالى شرع الفدية لتعويض الفريضة في صورة إطعام مسكين أو إنفاق ثمنه فيطعم مسكينًا عن كل يوم أفطره في نهار رمضان؛ وبذلك يحصل التناغم والتكافل بين أفراد المجتمع؛ فهذا قادرٌ على الصيام يؤدي الفريضة وذاكَ عاجزٌ عن الصيام يسدُّ خَلَّةَ المحتاج الفقير.

          أيها الإخوة: سبق وذكرنا أن الشريعة لم تُغْفِل الغرائزَ المركَّبَةَ في الإنسان غير غريزة الأكل والشرب كالغريزة الحيوانية الشهوانية فالإنسان قد تَضعف نفسه وهو صائم فيقع في الجماع المحظور على الصائم في نهار رمضان فالمجامِع أفسد صومه بغير إذنٍ شرعي كما هو حال المريض والمسافر وغيرهم من أصحاب الأعذار؛ لهذا أوجبت الشريعة على المجامع الكفارة أي: كفارة الجماع وهي صيام شهرين متتابعين؛ لأنه هَجَمَ على هتك حرمة شعائر الله تعالى وكان مبدؤه إفراطًا طبيعيًا لهذا وجب أن يقابَلَ بطاعةٍ شاقةٍ غايةَ المشقة؛ ليكون بين يديه مثل تلك فينزجر عن غلواء نفسه.

          وأخيرًا أيها الأحبة تظل الحِكم والمقاصد وأسرار العبادات بابًا عظيمًا يجلِّي الله لنا منه ما شاء ويخفي عنا منه ما شاء، ويظل المسلم على يقين أن الله سبحانه لا يكلف عباده فوق ما يطيقون وتبقى شريعتنا شريعةً واقعيةَ النظرة تراعي التيسير ورفع الحرج.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.
اللهم أعنا على الصيام والقيام وغضِّ البصر وحفظ اللسان وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين آمين آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] صحيح البخاري: باب الدين يسر (1/ 16).

[1] صحيح البخاري: باب الدين يسر (1/ 16) ح (39).

[1] صحيح مسلم: باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (1/ 256) ح (535)، مسند أحمد (43/ 105) ح (25951).

[1] سبق تخريجه.

[1] صحيح البخاري: باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا (3/ 31) ح (1933).