سلسلة إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة السادسة عشرة | الشيخ أنس الموسى

الصيام مهذب للأخلاق


          الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا.

وبعد:

          استقبل المسلمون ضيفًا كريمًا وغائبًا عزيزًا طالما انتظروه شهر إذا جاء أقبل معه الخير وجاءت معه البركات ينادى فيه في كل ليلة: «يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أَقْصِر» [1].

يا أيها الشـهرُ الكريم ومَن بــه ***تسمو النفوس ويخشع الوِجدان

فالصوم تزكيةُ النفوس وطُهرُها  ***  ولكبـــح كــــل رَزِيَّـــةٍ ميــــــزان

الصوم تربيةُ الضمير فمَن سـما   ***  فيه الضمـــيرُ تألَّـــــق الإيمـــان

صومُ الجوارح أن تكفَّ عن الأذى *** لا صـــومَ في صـــومٍ به أضـغان

والصوم صدقٌ وانطلاق عزيمةٍ  *** في الله يكبــو دونـها الكســــلان

          أيها الأحبة: الأخلاق من أهم ما بعث به النبي ﷺ «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» [2].

وسئل رسول الله ﷺ: «أي المؤمنين أفضل؟ قال: أحسنهم خلقا، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم لما بعده استعدادا، أولئك الأكياس» [3].

          الأخلاق ثمرة الطاعات ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة 183] ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت 45] لكل طاعة ثمرة فالعبادات وسائل لمقاصد ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[التوبة 103] ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة 197] حين تفقد العبادات هدفها وجوهر مهمتها تصبح جثةً بلا روح.

«رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ» [4].

«صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ، وَيُذْهِبُ مَغَلَةَ الصَّدْرِ ” قَالَ: قُلْتُ: وَمَا مَغَلَةُ الصَّدْرِ؟ قَالَ: رِجْسُ الشَّيْطَانِ» [5].

وقد «سئل رسول الله ﷺ عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: الفم والفرج» [6].

 إن حسن الخلق يورث القرب من مجلس المصطفى ومحبته «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا» [7].

الصيام الحقيقي يرقى بصاحبه عن الفحش والسفه والطيش قَالَ رَجُلٌ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ» [8]؛ لهذا حذر المصطفى أن يخدش المؤمن صيامه بما لا يليق من سيء الأخلاق.

          الصيام أيها الأحبة ليس من أجل هذا الشهر فحسب بل هو مدرسة العام بل مدرسة العمر فالصيام ووسيلةٌ لمقصِد.

 الصيام مدرسة سنوية شهرية يقيمها الإسلام لتربيتنا من جديد ويحثنا على الصبر وتغير المألوف.

          أيها الأحبة: ما من عبادة من العبادات إلا وتترك بصمتها في المسلم ومن هنا لا يستغني مسلم عن أي عبادة من العبادات التي شرعها الله عز وجل.

يأتي رمضان في كل عام يثير فينا مكامن الضعف ليعيد تشكيلنا وتغيرنا من جديد فالصيام عبادة تترك بصمتها في سير المسلم وسلوكه وتشارك في تكوينه وتهذيبه ظاهرًا وباطنًا فهو يحثنا على الصبر وتغيير المألوف ويطهر عاداتنا من أكدار المادية وصوارفها.

  جعل الله الصيام مهذبًا للأخلاق وضابطًا للمشاعر والانفعالات ممثلًا في قول المصطفى «الصَّوْمُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ» [9].

الصيام عبادة جمعت الفضائل كلها شرعه الله تعالى ليهذب به الأرواح ويزكيها كي تعتاد فعل الخيرات واجتناب المنكرات. 

الصيام جنة ووقاية من الحرام وهو لجام المتقين وجُنَّةُ المحاربين كما قال رسول الله «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلَا يَجْهَلْ، وَلَا يَرْفُثْ، فَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ» [10].

كأن النبي بهذه الأحاديث يذكرنا وينبهنا فيقول: إن طبيعة الإنسان الجهل والغضب والانفعال فاستعدوا يا أيها الصوام إن سابَّكم أحد أو شاتمكم فلا تستعظموا ذلك فهذا أمر طبيعي بل قابلوا الإساءة بالإحسان وغضوا الطرف وتجاهلوا من آذاكم بلسانه.

إن الصائم ليس من يمتنع عن الطعام والشراب وحسب وإنما الذي يمسك لسانه وتصوم جوارحه عن الفواحش «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ بِأَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَلَا شَرَابَهُ» [11].

إذًا المسألة ليست فقط في الامتناع عن شهوة البطن والفرج بل الامتناع وسيلة لغاية الوصول لحسن الخلق «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر» [12].

الإسلام ربط بين الصيام وحسن الخلق «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» [13].

          لهذا قسم الإمام الغزالي رحمه الله تعالى الصيام إلى أقسام ثلاثة [14]:
 صوم العامة وصوم الخاصة وصوم خاصة الخاصة:
– أما صوم العامة: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
وصوم الخصوص: كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن ارتكاب الآثام.
وصوم خاصة الخاصة: صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله بالكلية.

أهـــل الخصوص من الصوَّام صومهم *** صون اللسان عن البهتان والكذب

والعارفون وأهل الأُنـــــس صومُهــــم *** صون القلوب عن الأغيار والحُجُـب

          إن الصيام يا إخوتي يعوِّدُ الإنسان مقاومة مقتضيات غريزته الحيوانية من طعام وشهوات وهذا ينعكس بدوره على سلوك الصائم وأخلاقه.

الصوم عبادة وقربة من أعظم القربات وهو دأب الصالحين والمصلحين وشعار المتقين يزكي النفس ويهذب الأخلاق، كما أن للصوم دروسًا تربوية كثيرة في الكفاح على احتمال المكاره والتحكم بالذات بتقوية الإرادة.

          أيها الأحبة: الإنسان مكون من روح وجسد فالروح تذكره بمهمته وغايته والجسد يحاول أن يهوي به إلى الطين والضَّعة فإذا ضعف سلطان الروح كانت الغلبة للجسد فيتسلم زمام الحكم ويسترسل الإنسان بالشهوات بمختلف ألوانها وأشكالها، فيأتي الصوم ليعيد للروح سلطانها وهيمنتها على الجسد لتستلم الدُّفة من جديد في قيادة الجسد لمهام الخير والرشاد.

الصيام هو القادر والكفيل بإبراز هذه المعاني فهو يعود النفس الصبر والصبر أُسُّ الأخلاق الحسنة وأساسها فهو المهذب للنفوس والأخلاق ويرسخ الإيمان وبه تصفو الروح فيشرق الإيمان في القلب فتتحقق ثمرة الصيام بظهور التقوى في السر والعلن ووقت يتحقق الصائم بالتقوى تعلو همته على مغريات النفس فيصير عبدًا ربانيًا يسير بهدي الله ونوره ليعمر الأرض على مراد الله.

          إن الصوم أيها الأحبة يربي النفس ويرتقي بها من مرتبة النفس الأمارة بالسوء – واسمها يعرِّفُ بها – حيث أن وصول المسلم لمرتبة النفس الأمارة دليل على انتكاس الفطرة التي من عادتها أن تدعو وتحث صاحبها على الخير ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [يوسف 53].

ثم يرتقي الصوم بالنفس إلى مرتبة النفس اللوامة التي تمثل الضمير الإنساني بأبهى صوره ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة 2].

ثم يرتقي الصيام بالنفس لمرتبة النفس الملهمة فتريد أن تترفع عن الطين لتعلو بعلاقتها مع خالقها سبحانه ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۞ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس 7-8].

ثم تترقى النفس في المراتب لتصل إلى مرتبة النفس المطمئنة وهي نفس آمنة لا يستفزها حزن ولا خوف تعيش في راحة وطاعة تامة لأوامر خالقها تجلببها عناية الحق الذي يقودها للجنة ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۞ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [الفجر 27-28].

ثم يعلو الصيام بالنفس حتى تتربع على عرش النفس الراضية فترضى بما آتاها الله وقسم لها ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [الفجر 28].

ثم في ختام هذا الترقي يصل الصيام بالنفس لتصير نفسًا مرضية خاضعةً خاشعة لعظمة خالقها جل شأنه فتسجد لكبريائه وعزته وتتسنم مراتب الإحسان فتعبد الله كأنها تراه.

          الصوم يا إخوتي ينحت من الإنسان إنسانًا سويًا مرضيًا يبعث في نفسه الخشية دون تكلف أو تصنع فشريعة الصوم تعوِّده مراقبة خالقه التي تورثه الخشية والتقوى حيث يجتهد الصائم ليكون حيث أمره الله ويغيب حيث نهاه الله فتحسن أخلاقه ولا شيء أثقل في ميزان العبد من حسن الخلق.

          أيها الأحبة: إن تحديد الإمساك والإفطار بوقت يحتِّمان على المؤمن ويلزمانه أن الاسترسال وعدم الانضباط يقودانه للخطأ فلو سابك أحد الجاهلين أو شاتمك فاسترسلت في إعطاء النفس رغبتها في التشفي فقابلت الإساءة بالإساءة فأنت لست بصائم فتوقيت الإفطار والإمساك يعودانك الانضباط وأن هناك أخلاقًا وحدودًأ ما ينبغي أن يتجاوزها الصائم .

          أيها الأحبة: إذا كان المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم فكيف إذا اجتمع الصوم وحسن الخلق.

          الصائم الواعي يا إخوتاه هو الذي يستثمر أخطاء الآخرين استثمارًا صحيحًا فيجعلها له لا عليه وذلك بالعفو والصفح فعبادة الصوم لا تتساوق مع خلق الجهل والحمق لهذا أرشد المصطفى الصائم إذا سابه أحد أن يقول إني صائم؛ أي ليقل لمن أساء إليه إني صائم وليقل للجاهل أستطيع أن أرد اللطم باللطم والشتم بالشتم والرفس بالرفس لكني صائم لأن الصائم داخل في العبودية المحضة لله عز وجل.

          وأخيرًا: الصوم يا إخوتي يأمرنا بالأخذ بخلق التأني والأناة وشغل الوقت بالضراعة والدعاء.

فاللهم لك الحمد أن أكرمتنا بشهر رمضان ولك الحمد أن وفقتنا للصيام والقيام فأعنا على حسن الصيام ويسر لنا دروب الاستقامة وحسن الخلق وأفتح لنا أبواب رحمتك.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سنن الترمذي: باب ما جاء في فضل شهر رمضان (2/ 59) ح (682).

[2] مسند أحمد (14/ 512) ح (8952).

[3] سنن ابن ماجه: باب ذكر الموت والاستعداد له (2/ 1323) ح (4259).

[4] مسند أحمد (14/ 445) ح (8856).

[5] مسند أحمد (35/ 293) ح (21364).

[6] سنن الترمذي: باب ما جاء في حسن الخلق (3/ 431) ح (2004).

[7] سنن الترمذي: باب ما جاء في معالي الأخلاق (3/ 438) ح (2018). 

[8] مسند أحمد (15/422) ح (9675).

[9] مسند أحمد (13/ 422) ح (8059).

[10] مسند أحمد (13/ 480) ح (8128).

[11] مسند أحمد (16/ 332) ح (10562).

[12] سنن ابن ماجه: باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم (1/ 593) ح (1690).

[13] مسند أحمد (41/ 470) ح (250 13).

[14] إحياء علوم الدين: أسرار الصوم وشروطه الباطنة (1/ 234).