سلسلة إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة الخامسة عشرة | د. محمد أبو بكر باذيب

شياطين الإنس وكيدهم للصائمين

 

          الحمد لله الذي خصص شهر رمضان بالمزايا، وأكرم عباده المؤمنين بالتحف والعطايا. والصلاة والسلام على سيد سادات البرايا، الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه مقتفياً أثره وأخلص في النوايا.

أما بعد؛ 

          فإن من أعظم مزايا شهر رمضان المبارك، تصفيد الشياطين فيه طوال أيامه ولياليه، أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين». وأخرج الإمام أحمد عنه قال: لما حضر رمضان، قال رسول الله : «قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها، فقد حرم».

          يقول العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله في كتابه (النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح: ص 54): “والسماء في التعاليم الدينية هي مقر الخيرات الروحانية، والفيوضات الربانية، والتزكيات النفسانية، فمعنى فتح أبوابها تهيئتها لاكتساب المؤمنين من خيراتها على حسب أعمالهم ومراتبهم ورضي الله تعالى عنهم بقبول أعمالهم ودعائهم ومكاشفة أرواحهم، فالأبواب استعارة لسوائل الوصول إلى الخير، والسماء حقيقة عرفية في مقر الخيرات وخزائن الرحمات؛ ولذلك كثر إثبات الارتفاع والصعود للفضائل؛ ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]، ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18].
          وليس المراد بالسماء الجنة، فقد دل على عدم قصدها عطف الجنة عليها في قوله تعالى: ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [الأعراف: 40]. وما وقع من الروايتين الأخيرتين من أبواب الجنة وأبواب الرحمة فهو من الرواية بالمعنى”.

  • معنى تصفيد الشياطين:
              قال ابن عاشور رحمه الله: وأما قوله: «وسلسلت الشياطين» فهو منع مخصوص من بعض الوساوس الشيطانية، فالكلام تمثيل لحال الشياطين في غل أيديها عن كثير من أعمالها بحال المصفود في سلسلة، فإنه لا تنقطع حركته تماما، وإنما يذهب نشاطه ومقدرته. 

          وقال العلامة الكشميري في (فيض الباري على صحيح البخاري: 3/ 327): قوله: (وسلسلت الشياطين) وعند الترمذي: «مردة الجن»، فلا يلزم تسلسل الجميع. على أن وقوع المعاصي لا ينحصر على الشياطين، فإن نفس المرء أكبر أعدائه. على أنه لا ريب في أن كثرة الطاعات، وقلة المعاصي مشاهد في هذا الشهر المبارك.

القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 280)

          وقوله: (صفدت الشياطين) يحتمل الحقيقة بأن تغل بالحديد، ويحتمل المجاز ويكون عبارة عن كفها عن الاسترسال على الخلق، كما كانت تسترسل على الخلق قبل ذلك كقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك}. عبارة عن الكف عن العطاء.

والحقيقة عندي أولى فإنها أبلغ في الهوان للشيطان. 

          فإن قيل فنحن نرى المعاصي تجري في رمضان كما كانت تجري قبله فأين التصفيد أو فائدته؟ فالجواب عن ذلك من وجهين:

* أحدهما: أنا نقول قد روي في الحديث: “وصفدت مردة الشياطين” فيحتمل: أن يريد به أهل الخبث والدهاء منهم يصفدون فيذهب جزء من الشر كبير بهم. ونحن نشاهد قلة المعاصي في رمضان فلا يجوز إنكار ذلك.

* الثاني: أن يكون معناه في تصفيد الشياطين كلهم عن الاستطالة بأبدانهم ويبقى تسليطهم بالوسوسة والدعاء إلى الشهوات والتنبيه على المعاصي. انتهى

 

          فإذا علمنا ما تقدم، فلنا أن نعجب كل العجب، من بقاء مردة من شياطين الإنس يظلون مطلقين غير مصفّدين، يقومون بوظيفة شياطين الجن في الإفساد والعمل على نشر الرذائل في أجواء هذا الشهر الفضيل. 

          بل لقد تجاوز إفساد شياطين الإنس إفساد شياطين الجن في بعض الأمور، فهذه الرذائل التي تنشر وتبث وتذاع على مرأى ومسمع من الناس، من الذي أذاعها وبثها ونشرها، ومن الذي قام بأداء أدوارها وتحريض البشر على الوقوع فيها جهاراً نهاراً؟ ليس إلا شياطين الإنس القائمين بوظيفة نشر الشر في العالم.

          إن في حديث تصفيد الشياطين عبرة عظيمة، لأن علم المسلم بذلك التصفيد، يفيد أن وقوعه في الشر والمعصية في خصوص هذا الشهر الكريم ليس إلا نتاج ما اقترفت يداه، وسولت له نفسه الردية. قال بعض أهل العلم: “في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلّف، كأنه يقال له: قد كُفّت الشياطين عنك، فلا تعتلّ بهم في ترك الطاعة، ولا فعل المعصية”، فتح الباري، ج4، ص 114.

أيها المسلم:
          خذ حذرك من شياطين الإنس، الذي يزينون لك الغواية، ويزينون لك المعصية. إن رأس مالك أيها المسلم هو حسناتك وعملك الصالح، فلا تضيعها باتباع الشهوات والنظر إلى المحرمات، فتأتي يوم القيامة مفلساً. 

          إن الذين يتبعون الشهوات، يريدون أن لا يكون على النزوات سلطان من دين أو عرف أو قانون، وأن لا يكف هيجان الغرائز وازع؛ فتصير همم البشر في بطونهم وفروجهم، وسعيهم في إشاعة الفواحش، وتدنيس الأعراض، وإظهار أنواع الفساد.   ومن عرفَ حرْص كثير من الفضائيات على الاستمرار في بث ما يحض على اتباع الشهوات من اللهو والفجور خلال شهر رمضان، علم أن للشياطين المسلسلين نواباً وجنداً، قاعدين للعباد صراط الله المستقيم؛ لا يفترون عن إغوائهم وصدهم عما أراد الله لهم من الخير بصيامهم.  

          فليعلم الصائم أن خطر شياطين الإنس وحربهم أشد، وليستعذ بالله من شرهم كما يستعيذ به من شر شياطين الجن، وليهجر رفثهم وفحشهم حفظاً لصيامه أن يحبط؛ فيصير جوعاً محضاً، وعطشاً بحتاً، وشقاءً خالصاً، ولا يغرنه لبوس “الفن”، الذي لفوا فيه لهوهم وخَناهم؛ إذ لو كان فناً نظيفاً وعملاً صالحاً لأعان الصائم على تطهير جوارحه من فضول النظر، وإطلاق الشهوات، وركوب الفواحش ما ظهر منها وما بطن.   لو كان فناً نظيفاً وعملاً صالحاً لأعان الصائم على البر والتقوى والخشية والحياء، فنهاره إمساك لا يصلح ولا يتم إلا بإمساك الجوارح، وليله قيام ودعاء، وتضرع وابتهال لا ينفع ولا يصل إلى الله إلا إذا صفا جوه من اللغو.

 

نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم الصيام وسائر الأعمال وأن يكرمنا بالقبول وإدراك ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وصلى الله على خيرته من خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.