سلسلة إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة الثانية عشرة | د. باسم عيتاني

شهر يجدد الروح

 

                 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه.

          في هذا الشهر العظيم شهر رمضان أجواء فريدة من نوعها يعيشها المؤمن، هي مختلفة عن غيرها من الأيام والليالي، ومن خلال تمايز هذا الشهر نتحقق بأن له مقصداً عظيماً وهدفاً كبيراً، ألا وهو تصفية الروح من الدنس، وتطهيرها من الأوساخ المعنوية، وتزكيتها من الأمراض القلبية، فالتراكم الكمي من الكدورات من سنة إلى سنة تلوث القلب بسبب الغفلات والآثام والمعاصي، وهذا بحاجة إلى طريقة لإزالتها، فيأتي هذا الشهر الكريم فيه فرصة رائعة ليجدد المؤمن روحه، وليُرجعها إلى فطرتها السليمة حتى يطوع نفسه للعبودية لله تعالى، فذلكم الصوم الذي شرعه الله لنا وحدد لنا طريقته يوصلنا إلى ذاك المقصد الكبير.   

          فمن صام شهراً كاملاً ولم يشعر بأنه قد تزكت روحه أو ارتقت أو صفيت من شوائب الرجس المعنوي فهو لم يصل إلى المقصد ولم يُصِب الهدف المرجو من هذا الشهر، لأن الصوم له مقاصده وحكمه الكثيرة التي ينبغي أن يحققها المؤمن كما ذكر العلماء، فإذا لم يحقق الحِكَم من ذلك فمثله كمن يصلي الصلاة دون خشوع فإنه لم يحقق جوهر الصلاة وإن صحت صلاته.

          إن الله ركب الإنسان من جسد وروح وعقل، وأعطى التشريع الإسلامي حقاً لكل قسم يجب حفظه و رعايته، للجسد له حق، وللروح لها حق، وللعقل له حق، ورسم التشريع وسائل لمعرفة الله وطريقة لأجل عبادة الله، فللجسد له عبادة وللروح لها عبادة وللعقل له عبادة، فلكل من الأقسام عبادة يتغذى منها، فلم تترك الشريعة المرء بأن يصل وحده من تلقاء نفسه إلى الخشوع أو الخضوع لله أو اليقين أو تزكية الروح او الخوف من الله بواسطة طقوس يخترعها من ذهنه أو ممارسة اليوغا او ماشا به ذلك، بل هناك تشريع يأتي من الرسل عليهم السلام  بواسطة الوحي من عند الله يُعلِّم الناس كيف يتعبدون الله وكيف يصلون إلى معرفة الله. 

          فنرى الصلاة في شريعتنا ذات ابتداء مخصوص وقيام وقراءة وركوع وسجود وانتهاء مخصوص، والصوم له ابتداء وانتهاء من حيث الشهر واليوم، وكذلك الزكاة والحج، فحددت الشريعة طريقة كل عبادة وحددت هدفها.

          وهنا نركز على قضية تصفية الروح، فالله خلق الإنسان في أحسن تقويم، قال تعالى : ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين، 4] وقدره بدقة متناهية، فقدر السمع والبصر ولون البشرة، وقدر كل شيء تقديراً وهذا يخرج ذلك عن إحاطة التصور البشري ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون، 14] أي أحسن المقدرين. وخصصه في صورة محددة ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ۞ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار، 7- 8]  ونفخ في الإنسان الأول سيدنا آدم عليه السلام الروح ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحج، 29] وكان هذا السجود تكرمة لهذا المخلوق الذي ركبه الله من طين وروح، وهكذا تكوّن سيدنا آدم وهكذا بدأت قصة الإنسان.

          فالإنسان من روح ومن عقل ومن جسد وتتغذى كلها من خلال العبادات التي شرعها الله فالعقل مثلاً يتغذى من خلال التعلم والتفكر بقراءة القرآن والتفكر بآيات الله الكونية، والجسد يتغذى مثلاً من خلال الذكر والركوع والسجود والطواف والسعي…..الخ  فالعبادات ممارستها تصب في صالح الروح لتقويها وتنشطها وتزكيتها، وكذلك الروح كلما قويت وتنشطت قوي الجسد والعقل للعبادات، وعندما تضعف الروح تضعف الجوارح فتضعف في العبادات.

          فيأتي شهر رمضان لتقوية الروح ولتزكيتها وتصفيتها وتجديدها، فالروح أمانة بين جنبيك فيجب أن تحافظ عليها ويجب أن تجنبها التلوث المعنوي وكذلك الصوم أمانة يجب أن ترعاه وتقوم بما هو فرض عليك ومن الرعاية كذلك الازدياد من النوافل، قال ﷺ: «إنما الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته» [1] فلو سلمك إنسان أمانة، وقال لك: احفظها لي. فإن كنت أميناً حفظتها ورعيتها بعناية فائقة، وأما غير الأمين فسوف يضيعها. فلا تضيع أمانة الروح ولا أمانة رمضان.

          فمن مقاصد الصيام التقوى، فقد قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾  [البقرة، 183] فالتقوى هي شعور قلبي، وقوة داخلية تدفعك لفعل الخيرات والإكثار منها وتدفعك لترك المنكرات حباً لله تعالى، ومحلها القلب كما أشار إلى ذلك الرسول ﷺ : «التقوى ههنا، ويشير إلى صدره ثلاثاً» [2]، فالصيام هو امتناع عن الطعام والشراب وغيره بنية صادقة خالصة لله تعالى، وهو أمر بين العبد وربه، وهو أمر خفي شعوري داخلي كذلك التقوى وكذلك الروح،  والصيام هو تخلي عن العلائق من عادة الطعام والشراب وغيرها، فهذا مما يصل به إلى التقوى ومما يصل به إلى تجديد الروح وتقويتها، فكلما ابتعدت عن العلائق الدنيوية أي لم تجعلها في قلبك كي لا تسيطر على روحك و تأسرك، كلما قويت الروح وارتقت.

          ففي تجربة صيام شهر كامل يبعدك الله تعالى عن مباحات حتى تروض ذاتك عن البعد عن الحرام، فمن امتنع عن المباحات فمن باب أولى أنه قادر على ترك المحرمات، فالتقوى الغائية التي تحصل في شهر رمضان تبعدك عن المعاصي والشهوات المحرمة والعادات السيئة والآثام وقطع الرحم والرشوة وأكل مال الناس بالحرام وغير ذلك، فهذا كله يبعد عن العلائق التي تلوث القلب والروح ، مما ينتج روحاً صافية تتألق بسبب نجاحها في الدورة التدريبية في هذا الشهر الكريم.

          فما أجمل هذا الشهر الذي الذي يجدد روحك ويوصلك إلى مرتبة ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾  [البقرة، 183] فتتهيأ للوصول إلى معرفة الله ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة، 282] وتتأهل إلى التفريق بين الحق والباطل ﴿إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ [الأنفال، 29] وتجد مخرجاً عند كل ضيق ويأتيك رزقك من حيث لا تحتسب حتى يقوى يقينك ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ۞ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق، 3- 2] وترى تيسير الأمور عند تعسرها ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق، 4] و تبلغ رتبة الولاية في القرآن ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۞ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس، 63- 62] وتدرك النجاة في الآخرة ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا﴾ [مريم، 72] وترث جنة الخلد ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا﴾ [مريم، 63] والأبلغ في ذلك أن تصل إلى رتبة العندية ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات، 13].

 

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث ابن مسعود في حديث والأمانة في الصوم وإسناده حسن قاله العراقي، تخريج أحاديث الأحياء، الزبيدي:(685) ،2/ 514.

[2] رواه مسلم في صحيحه، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره،(2564)، 8/ 10.