سلسلة إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة التاسعة | الشيخ محمود دحلا

أخلاق الصائم

 

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا وارفعنا بما علمتنا وزدنا علماً يقربّنا إليك يا أكرم الأكرمين.

 

          معشر الصائمين: في هذا الشهر المبارك الذي أطلّ علينا بنفحاته وتجلياته وبركاته، هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، هذا الشهر الذي يدخل فيه الصائم مدرسة ربّانية، يتخرج فيها أكثر قرباً لله سبحانه وأكثر انضباطاً لأحكام لله جلّ وعلا، هذا الشهر فيه عناوين شتّى، جميلة ورائعة، طيبة وكريمة، نتحدث في هذه الدقائق المباركة عن أخلاق الصائم.

 

          الأخلاق في الإسلام لها مكانة عالية، ولها منزلة رفيعة، والرسول هو القدوة في ذلك، فقد قال ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب، 21].

فالرسول  هو أسوتنا وقدوتنا وإمامنا، ونحن مأمورون أن نسير على هديه وأن نقتفي أثره وأن نستنّ بسنّته، حتى تكون لنا مكانة في قلبه الشريف ص، وحتى ننال مرضاة الله تعالى

الرسول  مدحه الله في القرآن الكريم في مواضع، من أجلِّ ما مدحه الله به قوله سبحانه في حقه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم، 4].

ومما مدحه به سبحانه وتعالى قوله ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران، 159] النبي  بيّن سرّاً من أسرار بعثته فقال: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق

ومن أراد معرفة خلق النبي فهذا القرآن بين أيدينا، فما أمر به القرآن وحثّ عليه فهو خلُقٌ من أخلاق رسول الله ، وما نهى عنه القرآن ونفّر منه فإنّ النبي  أكثر الناس بُعداً عنه.

 

          الأخلاق مما ينبغي أن نعطيه الأهمية الكبرى في حياتنا؛ لأن الالتزام بالأخلاق فيه فلاحنا ونجاحنا، ووجودنا وقيادتنا وريادتنا وعظمتنا في الدنيا، وفيه نجاتنا يوم القيامة.

في الدنيا قد قيل: 

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وقيل:

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم *** فأقم عليهـــم مأتماً وعويــلا

          أمةٌ بلا أخلاق بمنزلة العدم، وأمةٌ تسير في طريق الأخلاق وتهذيب النفس وتنقية القلوب، أمةٌ ترتقي في سلّم المجد والحضارة، وتحافظ على كيانها وعلى وجودها.

          الأخلاق سبيل من السبل التي يسلكها العبد للوصول إلى جنة الله سبحانه وتعالى، فإن النبي  سُئل عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة؛ فقال: «تقوى الله وحسن الخُلُق»، وسُئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؛ فقال: «الفم والفرج».

اللهم أعنّا على الصيام والقيام وغضّ البصر وحفظ اللسان وقراءة القرآن والتّخلّق بأخلاق نبيّك المصطفى .

 

          معشر الأحباب؛ الإسلام قام على أركان خمسة – هذه الأركان ثمرة من ثمراتها حسن الخُلُق – مكارم الأخلاق من ثمرات أركان الإسلام التي حدّثنا عنها رسول الله بقوله «بني الإسلام على خمس، شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزّكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلا»

هذه الأركان الخمس إن دقّقنا فيها وجدنا أنّ الأخلاق من ثمراتها ومن نتائجها، وغاية من غاياتها:

  • الشهادتان (لا إله إلا الله) من شُعب الإيمان، من أخلاق المسلم، فإنّ النبي قال: «الإيمان بضع وسبعون – أو ستون – شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان». فنحن نرى أن لا إله إلا الله هي مفتاح هذه الأخلاق، وهي مقدمة هذه الأخلاق، وهي بوابة هذه الأخلاق، وهكذا نتدرّج بفضل الإيمان الذي منحنا الله إياه، ووهبنا سبحانه وتعالى إياه، نسير في هذا الأخلاق التي نبعت من خلال إيماننا وتوحيد ربنا سبحانه وتصديق نبينا المصطفى .

  • إذا انتقلنا إلى الصلاة نرى أنّ الله سبحانه وتعالى قال في الصلاة النافعة، المثمرة، المنتجة التي يؤديها ويقيمها العبد – فنحن مأمورون بأداء الصلاة، ومأمورون بإقامة الصلاة، فأداء الصلاة وإقامة الصلاة ينبغي أن يكون في صفةٍ توصل إلى هذه النتيجة وتسير بنا إلى هذه الثمرة، ما الثمرة؟ ﴿إِنَّ الصَّلَاة تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَر [العنكبوت، 45]. فالعبد المصلي عبدٌ منتهٍ عن الفحشاء والمنكر، وهذا الذي ينتهي عن الفحشاء وينتهي عن المنكر هو إنسانٌ متخلّقٌ

 بالأخلاق الفاضلة، ونأى بنفسه عن الخسّة والرذيلة والدناءة والأخلاق السيئة.

  • في الزكاة؛ قال الله سبحانه وتعالى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة، 103] فالزكاة تطهير وتزكية النّفس وقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

  • في الحج؛ قال الله تعالى ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة، 179] والنبي قال «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه».

إذن الشهادتان، الصلاة، الزكاة، الحج.. كلُّ ذلك طرقٌ مؤديةٌ إلى مكارم الأخلاق، من ثمارها حسن السلوك، وحسن العلاقة مع الله تعالى، وحسن الأخلاق والتعامل مع عباد الله .

 

          وإن كنّا نتحدّث عن الأخلاق عموماً، وأخلاق العبادات على جهة الخصوص، فلا بدّ من أن نقف عند أخلاق المسلم الصائم على جهة خصوص الخصوص، قال الله سبحانه ﷻ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة، 183] التقوى؛ ثمرة من ثمرات هذا الصيام، والعبد المتقي هو عبدٌ متخلّق بكلِّ فضيلة، ونأى بنفسه عن كلِّ رذيلة، وسما وارتقى في مدارج السلوك إلى ملك الملوك بكلِّ طِيْبٍ ولطفٍ وصدقٍ وحسن.

 

          كذلك إذا دققّنا في أمر الصيام؛ نجد كما قال العلماء أنّ البطن إذا جاع شبعت الجوارح، ففي الصيام يجوع البطن فتشبع العين فلا تتمادى في النظر، وتشبع اليد فلا تتمادى بالبطش، وتشبع الرِّجل فلا تتمادى في السعي إلى الباطل.. ولكن إذا شبع البطن جاعت الجوارح، شبع البطن تمرّدت الشهوات، تمرّدت العين،  تمرّد اللسان، تمرّدت اليد، تمرّدت الرِّجل.. سار العبد فيما يُغضِبِ الله ووقع في حمئة الرذيلة والمعصية، نسأل الله السلامة.

 

          الصوم؛ يقوي فينا قوة الإرادة، فأنتم تطبخون الطعام ولا تأكلون، وترون الماء ولا تشربون، وتنظرون النساء ولا تقربون، ليس هذا إلا تدريباً على قوة الإرادة، حتى إذا كان هناك خُلُقٌ شنيعٌ وصفة رذيلة فلدى العبد الذي روّضه الصيام وقوّى إرادته لديه الإمكانيات الكافية أن ينأى بنفسه عن هذه الرذائل، وأن يسموَ مع الفضائل والقربات التي تسير به إلى الله سبحانه .

          أَمَا رأيتم كيف أن النبي قال «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء»، الصوم وقاية تقي من المعصية، وقاية تقي من سفاسف الأمور، وقاية تقي من دناءات المعاملات والأخلاق الرذيلة وكلُّ ما يبعد عن الله سبحانه وتعالى.

 

          معشر الأحباب؛ إذن ليس المقصود من الصوم أن نجيع بطوننا فحسب، بل المقصود من الصوم بعد أن ينطبق علينا التعريف الظاهري للصوم وهو (الإمساك عن شهوتيّ الفرج والبطن من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنيّةٍ من أهله) ينبغي أن يكون هناك إمساكٌ آخر غير الإمساك عن الطعام والشراب ومعاشرة النساء، أن يكون هناك إمساكٌ عن سفاسف الأمور والدّناءات والرذائل والكذب وقول الزور وعن كلّ ما يغضب الله سبحانه وتعالى، فقد روى النسائي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال «ربّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، وربّ قائم ليس له من قيامه إلا السّهر».

 

  • قال الإمام الغزالي رحمه الله في معنى قول «ربّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع..»: “هو الذي يفطر على حرام، أو يفطر على لحوم الناس بالغيبة، أو لا يحفظ جوارحه عن الحرام” 
  • أمسك عن الطعام وأفطر على الحرام: أفطر على ما يحلّ، أفطر على طعام جاء من طريقٍ لا يرضي الله سبحانه وتعالى، هذا الإفطار على الحرام جعل صومه عديم الثمرة قليل الفائدة، كذاك الذي يدعو ويأكل الحرام، هذا لا يقبل منه (بمعنى لا يثاب عليه) وذاكم لا يقبل منه (بمعنى لا يستجاب دعاؤه)، ثمّ ذكر «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذّيَ بالحرام، فأنّى يستجاب له» الداعي لا يستجاب له، والصائم لا يُتقبّل منه. 

  • أو يفطر على لحوم الناس بالغيبة: يصوم عن الطعام وعن الشراب وعن معاشرة النساء ولكن يغتاب زيداً وعمروً وخالداً وبكراً.. 

قال «أتدرون ما الغيبة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: يارسول الله أرأيت إن كان فيه ما نقول؟ قال: إن كان فيه ماتقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه» فمثل من يغتاب الناس كمثل رجلٍ نصب منجنيقَ، وجعل يضع في المنجنيق حسناته، فيرمي رجلاً دمشقياً، ويرمي آخر بغدادياً، ويرمي ثالثاً في صنعاء، ورابعاً في القاهرة، وخامساً في إستنبول.. وهكذا يوزّع حسناته ويبدّد أعماله، فإذا به يأتي يوم القيامة مفلساً.

 

          تتمة الحديث وفي ذلك فائدة لأن أمر الصلاة أهم من أمر الصيام «… وربّ قائم ليس له من قيامه إلا السّهر» قال الغزالي أيضاً: “كالصلاة في الأرض المغصوبة، والصلاة رياء”، ونقل في فيض القدير عن الطّيْبي قال: “وكأداء الصلاة في غير جامعة لغير عذر”، الصلاة من إقامتها أن تكون بالجماعة، فإذا صلى منفرداً لغير عذر على الدّوام فذلك إثم، قال الطيبي “فإنها تُسقِط -أي الصلاة- القضاء ولا يترتب عليها الثواب”

 

خلاصة:

  • رمضان مدرسة، وعلينا أن ننجح في هذا الامتحان.
  • نقطف ثمرات هذه الغراس التي نغرسها في هذا الشهر.
  • أن نسلك أعظم وأقرب طريق يَرضَاه الله سبحانه وتعالى عنا.

 

وفي الختام:

قال : «من لم يدع قول الزور و العمل به، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه» أي ليس لله إرادة في صيامه، أي إن هذا الصوم ليس الصوم الذي أمر الله سبحانه وتعالى به.

 

اللهم ارزقنا صوماً كصوم رسول وكصوم الصحابة وصوم عبادك الأخيار المقربين. 

اللهم حسّن أخلاقنا، وكثّر أرزاقنا، واجعل إليك سعينا وأشواقنا..

والحمد لله ربّ العالمين.