سلسلة إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة السابعة | د. باسم عيتاني

لمعات رمضانية لطالب العلم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

          أجواء مباركة، وأجواء رائعة، وأجواء روحانية يعيشها الفرد والعائلة والمجتمع في هذا الشهر، شهر الهدى وشهر الفرقان شهر الحيوية وشهر النشاط  العالي.

 

          قد يظن بعض الناس أن الصيام هو امتناع عن الشراب والطعام ومن ثم يتعب الجسد وتخور القوى بل العكس فتقوى العزيمة وتعلو الروح ويتطلع المرء لمضاعفة الأجر، ففيه الأجر الذي لا يعلمه إلا الله ، وقد أثبت الله الخصوصية له وحده تعالى في أجر الصائم، فقد جاء في الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أجزي به» [1] أي: إن الصوم له وكل ما أريد به وجه الله وهو خفي لا يظهر إلا لله فهو له، يجزي عليه كيف يشاء لأنه إخلاص محض، والصيام فيه نية في القلب لا يطلع عليه إلا الله للامتناع عن الصيام والطعام وغيره، فيدع طعامه وشرابه لأجل الله وحده لا شريك له.

وجزاء العبد من الله لا يتصور في هذا الشهر العظيم، وعطاؤه لا يمكن أن يحصره العقل، فالأصل في الأعمال في أي شهر تتضاعف بكرم الله كما قال الله في كتابه العزيز:﴿مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام، 160]، أما شهر الصيام فإن الله يضاعف الأجر أضعافاً كثيرة بغير حصر عدد، فإن الصيام من الصبر، وقد قال الله في محكم التنزيل: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر، 10].

 

 

          فطالب العلم في هذا الشهر الكريم يتحفز ليزيد من نشاطه العلمي، ولا ينحصر طلب العلم فيمن يتلقى الدروس الدينية من فقه وتفسير وحديث وغيرها مما يتعلق بالشريعة، بل هو أوسع من ذلك، من يتعلم في المدرسة فهو طالب علم، من يأخذ العلم في جامعته فهو طالب علم، لأن طلب العلم النافع للبشرية يعتبر من مقاصد التشريع، نعم  تزيد الفضيلة في تعلم الشريعة لاعتبار تعلقها بأصالة الوحي النازل من عند الله .

 

           فالعلم يكشف لطالب العلم ما كان غائباً عنه، فيتفتح عقله وتتوسع مداركه ويزداد إيمانه بالله ، ويفهم الكون على أسس إيمانية، وتتكون عنده معارف تقربه إلى الله ويصبح راقياً في تفكيره، فكلما ازداد علماً ازداد نوراً في فكره، وكلما ازداد علماً ازداد معرفة بربه، وازداد خشية منه .

 

          فما أروع من مجتمع إسلامي أفراده متعلمة رجالاً ونساء كباراً وصغاراً، نعم «طلب العلم فريضة على كل مسلم» [2] بما هو واجب أن يتعلمه من دينه العظيم، أما ما زاد على ذلك فهو من فضائل الأمور التي تدخل في التحسينيات، فتصل إلى فروض الكفايات التي هي تصب في بناء حاجيات المجتمع وضروراته.

 

          فطالب العلم مكرم عند ربه مقرب من ملائكته، فقد ورد في الحديث عن رسول الله : «إنَّ طالبَ العِلْمِ لتحُفَّهُ الملائكةُ وتَظُلَّهُ بأجنحتِها ثم يركبُ بعضُهم بعضًا حتى يبلغوا السماءَ الدنيا من حُبِّهِمْ لما يطلبُ» [3] هناك رعاية ربانية واضحة وحفاوة من الملائكة وحب لطالب العلم لما يسعى إليه.

 

      •  أي طالب علم يريده الإسلام؟

          فنحن في شهر رمضان، شهر الإخلاص بل هو مدرسة الإخلاص، فهو يدرب المؤمن شهراً كاملاً على الإخلاص، فيمتنع عن طعامه وشرابه وشهوته بنية خالصة لوجه الله ، والنية خفية في القلب بينه وبين الله ، وهذا الامتناع يستمر لفترة شهر كامل ليقوى الإخلاص في قلب المؤمن، فرمضان دورة تدريبية للتعلم على الإخلاص في أعمالك كلها، وينبع الإخلاص الذي هو سر من أسرار الله من النية الصافية النقية، فطالب العلم في هذا الشهر عليه أن يستفيد من هذه الدورة ليتعلم الإخلاص في طلبه للعلم.

 

          فطالب العلم الذي يسعى إلى الغاية النبيلة وهي العلم، وهذا شرف كبير لكل من يكون تحت ظلال العلم، فأول درس يتعلمه في رمضان هو الإخلاص، فمن يتوجه إلى مدرسته أو كليته أو معهده الشرعي، فليكن الإخلاص وجهته وليطلب العلم لوجهه ، والله يوجهنا في الصلاة أن يكون محيانا له وحده، ففي الاستفتاح في الصلاة كان رسول الله يقول: «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين» [4] فالعلم حياة لطالب العلم فلتكن لله ، وجدد حياتك بتجديد نية العلم في سبيل الله في هذا الشهر، فمن  طلب العلم في سبيل الله حفته الملائكة وأظلته وبسطت أجنحتها رضى بما يطلب.

 

          فطالب العلم مهمته كبيرة فهو في محراب العلم يتأمل ويفكر ويجتهد ويتزود بالمعرفة ويزداد شيئاً فشيئاً من ثمرات العلم، ويتضرع إلى الله حتى يفتح عليه ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه، 114] فيرتفع بالعلم النافع فيتوصل إلى معرفة الله فيعظم الله في قلبه ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ [المدثر، 3] وهكذا يكون طالب العلم في رتبة العلم المشرقة العالية، فيترقّى وتتضاعف أجوره، فينتفع وينفع بعد ذلك العباد والبلاد وينفع مجتمعه وأهله.  

 

          فطالب العلم الذي يتعلم الطب يتوجه بنية صادقة لطلب الطب لله تعالى،  فيتعلم عن جسم الإنسان التفاصيل بواسطة الدراسة النظرية المعمقة والدراسة التطبيقية العملية من التشريح وإجراء العمليات التدريبية الجراحية مثلاً، فيتعرف على آثار قدرة الله وعظمته من خلال الإنسان، فيزداد معرفة بالله ويزداد تواضعاً، فيمتلئ قلبه إيماناً يدفعه عندما يصير طبيباً ممارساً لرسالة الطب أن يخفف آلام الناس وأوجاعهم ويساعد الفقراء، ويجعل أوقاتاً خاصة لتطبيب من ليس له قدرة على دفع أجرة الطبيب، أو ينوي في قلبه كلما أجريت ثلاث عمليات جراحية يفعل عملية لوجه الله خالصة لا يطلب فيها أجراً، أو يسافر لفترة أسبوعين أو عشرة أيام في السنة لبلد فقير في العالم  بحاجة إلى عناية طبية، فيقدم عمله الطبي هو وأصدقاؤه مجاناً لله لإنقاذ المرضى من أسقامهم وأوجاعهم، وينطبق هذا على طالب العلم في الهندسة والفيزياء وفي الاقتصاد وغير ذلك من الاختصاصات، فمثل آخر كطالب العلم في الاقتصاد ينوي دراسة هذا العلم لوجه الله حتى ينمي بلاده ويدفع الضرر المالي عن المجتمع من خلال دراسات خطط اقتصادية تخفف فقر الناس، وينوي تصفير الربا في الحياة الاقتصادية لأنه مهلك للمجتمعات، وليرفع الفساد المالي لأنه أكل لمال الشعب بالباطل، وهكذا كل طالب علم  قادر على أن يوجه علمه في سبيل الله وأن ينفع مجتمعه نفعاً عظيماً، وكلٌ بحسب اختصاصه ومهاراته وقدراته. 

 

          فمن أولويات طالب العلم في رمضان أن يفعله، هو أن يجدد نيته، لأنه يتدرب على الإخلاص لفترة شهر كامل، فحري به أن يجتهد في ترسيخ النية الصالحة في طلب العلم.

 

          ومن الأهمية بمكان، أوجه عدة نصائح رمضانية لطلاب العلم جميعاً في المدارس والجامعات والمعاهد، وخاصة لطلاب العلم الشرعيين ولو ازدحمت أوقاتهم بالدروس و الامتحانات في هذا الشهر الكريم:

  •            نصيحتي الأولى: الاستماع إلى العلماء الواعظين في المساجد وهو أفضل، والوعظ منتشر في كل المساجد في هذا الشهر، فإذا لم يستطع فليستمع من خلال التلفاز أو وسائل التواصل الاجتماعي إلى علماء ثقات وعاظ؛ لأن الموعظة تؤثر في النفس وترقق القلب وتصفي الروح وخاصة في رمضان لوجود القابلية العالية في محاولة تغيير الذات، لعل موعظة يسمعها طالب العلم في رمضان تغير حياته، فينتقل من طالب علم تقليدي إلى طالب علم حقيقي كما يريده الإسلام.
  •            نصيحتي الثانية: الاهتمام بالقرآن العظيم في شهر رمضان لكل طلبة العلم، فإن أئمة المسلمين يزداد اهتمامهم لقراءة القرآن في شهر رمضان، فنجد الإمام مالك (صاحب المذهب المالكي رحمه الله تعالى، وله كتاب الموطأ المشهور في الحديث الشريف، وهو من رواة الحديث المتقدمين والأوائل في الاختصاص في الحديث الشريف)، يترك التحديث ويتفرغ للقرآن الكريم، وهذا منهج السلف الصالح رحمهم الله في شهر رمضان. 

          فطالب العلم يحاول أن يختم ختمة قرآنية في رمضان، ويستمع إلى ختمة كاملة وراء الإمام في صلاة التراويح، وإذا كان يحفظ شيئاً من القرآن فليعزم أن يراجع كل ما حفظه لأن ذلك فرصة يستعيد فيها ما نسي أو يثبت ما حفظه، وإذا خطط أن يحفظ شيئاً جديداً فليفعل، ففي ذلك خير عظيم في شهر رمضان، وإذا استطاع طالب العلم أن يراجع ويدارس ما حفظ مع أحد زملائه فهذا أرقى حالاً، فقد كان جبريل عليه السلام  يلقى رسول الله كل ليلة من شهر رمضان يدارسه القرآن.

 

  •           نصيحتي الثالثة: أنصح طالب العلم في رمضان وبالأخص من يتخصص في العلوم الشرعية، أن يتميز في هذا الشهر الكريم، فليختر تفسيراً سهلاً مؤلفاً من مجلد واحد مثل كتاب:  التفسير الوجيز على هامش القرآن العظيم ومعه أسباب النزول وقواعد الترتيل. للعلامة الدكتور الشيخ وهبة الزّحيلي رحمه الله . فيقرأ يومياً  جزءاً من التفسير، فينتهي منه في شهر رمضان، فيمر على المفردات القرآنية التي بحاجة إلى كشف معانيها ويتعرف على أسباب نزول الآيات، فيدرك المعنى الإجمالي لكل آية،  وبهذا يكون قد حقق عبادة ثانية مهمة بعد عبادة قراءة القرآن التي تعتبر أعلى درجات الذكر عند المحققين من العلماء، وهي عبادة التفكر والتأمل التي تعتبر من أرقى العبادات التي توصل إلى معرفة الله وهي من العبادات التي يقل ممارستها بين كثير من المسلمين.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] واه البخاري في صحيحه، كتاب: التوحيد، باب ذكر النبي وروايته عن ربه، (7100)، 6/ 741.

[2] رواه ابن ماجه في سننه، كتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، (224)، 1/ 81.

[3] رواه الطبراني في المعجم الكبير، (7347)، 8/ 54.

[4] رواه أبو داود في سننه، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء،(760)، 1/ 201.